للقرية جاذبية الانتماء، ونواة التكوين التي انطلق منها الشعراء والكُتّاب، فلطالما ذكر أدونيس في معظم لقاءاته قريته (قصابين) بوصفها الولادة الأولى في حياته، كذلك نجد قرية (مزينان) حاضرة عند علي شريعتي، أما السياب فتحولت (جيكور) إلى رمز في أعماله الشعرية.
ولابن البحرين الناقد “علي الديري” ارتباط خاص بقريته (الدير) المطلّة على الخليج، والمكتنزة بالتاريخ، وما كان هذا الانشداد الوجودي؛ لأنها مسقط رأسه فحسب، بل لكونها تمثل محيط تحولاته الفكرية أيضًا.
قرية الدير لها سمة تاريخية بارزة، فقد احتضنت دور عبادة المسيحيين قبل الإسلام، وما مسجد الراهب إلا شاهد على أطوار الزمن، حيث بني على أنقاض تلك الصومعة المرتفعة، ولهذا المسجد حيز روحي في ذاكرة علي الديري؛ فقد تعلم في حلقاته الدينية عندما كان صغيرًا عام 1982م، وقد أشار إلى أن مكتبة المسجد خلقت عنده ألفة مع الكتب حينما وقعت عيناه على كتاب الشيخ محمد مهدي شمس الدين عن العلمانية.
وبالرغم من أن “الديري” في كتابه (خارج الطائفة) يؤسس لفكرة ثقافية وسلوك حياتي مختلف، إلا أننا نستطيع قراءته كسيرة ذاتية تتسلل فيه القرية بوصفها اللحظات الجذرية الأولى.
يستحضر “الديري” مأتم جدته سلامة، وأصوات (الملايات) التي وهبته الخيال الخلاق، إلى أن قاده عنفوان الشباب في أوائل التسعينيات؛ ليقيم مع أصحابه بعد عشرة المحرم مهرجان عاشوراء في نفس المأتم، يتبنى فيه فكرًا آخر لكربلاء بإعداد جيل حركي واعد متأثر بأفكار الدكتور مرتضى مطهري، المكان هو المكان لكنه يتسع لسيل البكائيات الكبير، والرؤى الشبابية الجديدة. وهذا هو سر المكان بهذه المفارقة العجائبية.
علي الديري في هذه الجزئية يذكرني بالمخرج المسرحي جواد الأسدي الذي يؤكد أن انطلاقته الفنية تسربت من نشأته الأولى في كربلاء، حيث يعد أيام عاشوراء منصة كبرى أعطته جماليات المسرح.
تحضر تفاصيل القرية من بحر وعيون وبساتين، وكأن سيرته الذاتية تنساب على إيقاع الزرقة والخضرة معًا. وفي أكثر من لقاء يؤكد على ارتباطه بالناس في (الدير المقدسة) كما يحب تسميتها ملاطفة.
لكي نستوعب شخصية هذا المثقف، علينا أن نقرأ خطواته الأولى في (زرانيق) الدير؛ لنكتشف آفاق تنقلاته واختياراته المتعددة، ولنعرف أن ذلك القارئ الصغير الذي وجد صعوبة فيما يقرؤه من مفردات غريبة أصبح كاتبًا كبيرًا في مجالات الأدب والنقد والتاريخ والفلسفة والسياسة. وبقي وفيًّا لجوهر العلم، مهما تغيرت الوجهة من الرغبة في الدراسة الحوزوية إلى الدراسات الأكاديمية العليا، هذا هو الدكتور علي الديري ـ كما قرأته ـ وهو يقطع مسافة الوعي من أصالة مأتم جدته إلى حداثة صالونه الثقافي.
ومهما بلغت أقداره وأسفاره، فإن حنينه الجارف للطينة الأولى يلازمه في حله وترحاله، هكذا ارتبط بقريته، ومازال ذكرها عالقًا بلسانه وفي روحه، حتى لقبه تفوح منه رائحة المكان.