فقدنا قبل عدة أيام قليلة شخصًا عزيزًا على قلوبنا، رحل في ريعان شبابه ولم يمهله القدر لتحقيق ما كان يصبو إليه.
لا يعلم إلا الله وحده بحجم المعاناة التي رافقته منذ ولادته إلى أن اختاره المولى عز وجل إلى جواره. كما لا يعلم إلا الله وحده حجم الجهد والتضحيات التي بذلاها والداه منذ ولادته حتى مماته.
لم تكن مرحلة الطفولة عند مهدي عبدالله العرفات كبقية أقرانه، حيث باغته المرض الخبيث بعد تسعة أشهر فقط من ولادته وفقد على أثره بصره. اقتبس من كلامه في أحد اللقاءات فيما يتعلق بهذا الجانب “وجود الإعاقة البصرية لا ينفي وجود المكفوفين بالمجتمع، ولكنهم من الممكن أن يكونوا فاعلين من خلال الاهتمام بهم وتعليمهم وتأهليهم فهم يحتاجون لمن يتفهمهم ويستطيع التعامل معهم”.
بالرغم من كل الصعوبات والمعوقات التي واجهته إلا أن إصراره وعزيمته جعلته يتحامل على ألمه ومعاناته لمواصلة المشوار بخطوات ثابتة نحو تحقيق أهدافه والوصول إلى ما كان يطمح إليه. شد الرحال من القطيف إلى الرياض ليلتحق بجامعة الملك سعود ليتوج بعد ذلك تعبه وجهده بحصوله على شهادة البكالوريوس في التاريخ. التحق بعد تخرجه بسلك التعليم وعمل معلم عوق بصري في برنامج دمج المكفوفين في إحدى القرى والتي تبعد عن مقر إقامته قرابة 1400 كلم قبل أن يتم نقله إلى مدينة الجبيل لاحقًا. من أين لك كل هذا الأصرار يا مهدي؟
إيمانه بالتطوير الذاتي وشغفه لاكتساب المهارات جعله يلتحق بدورات تدريبة بعيدة كل البعد عن مجال دراسته وعمله وعلى نفقته الخاصة، فعكف على حضور دورات في الهندسة الصوتية في معاهد مختصة بمملكة البحرين. فأي بصيرة كنت تملك يا مهدي؟
حمل مهدي على عاتقه مسؤولية تدريب وتطوير وتأهيل المكفوفين في المنطقة بعمله كمتطوع في مركز رعاية المكفوفين منذ تأسيسه عام 1426هـ. وقام بتدريب وتأهيل المكفوفين على استخدام الحاسب الآلي، بقراءة الشاشة والأجهزة الذكية، ولغة برايل كتابة وقراءة.
حضور الدورات في لغة برايل لم يكن مقتصرًا على المكفوفين فبعض المبصرين يحرص على حضور تلك الدورات والاستفادة مما يقدمه من دروس. كما قام بتحويل بعض النصوص إلى لغة برايل لتتمكن هذه الفئة العزيزة على قلوبنا من الاستفادة من محتواها. ومن ضمن أعماله في هذا المجال حول كتاب “صحة ورشاقة بلا حرمان” للكاتبة خيرية الحكيم إلى لغة برايل. كم أنت عظيمًا وراقيًا بفكرك يا مهدي!
للوهلة الأولى تبدو زاويته في مهرجان “تطوع وطن” بسيهات عادية ولكن عندما يقترب الزائرون تصيبهم الدهشة كيف لكفيف أن يقوم بإصلاح أجهزة يعجز المبصرون عن معرفة محتواها. شغف صيانة الأجهزة الإلكترونية كانت هوايته منذ الطفولة. وفي هذا المجال حصل مهدي على شهادتين من مركز تمكين بالإمارات العربية المتحدة: الأولى تخصص صيانة طابعات “برايل” الخاصة بالمكفوفين والأخرى لصيانة جهاز “برايل سنس” وهو جهاز يستخدمه الكفيف للقراءة والكتابة بشكل عام بطريقة برايل. بالرغم من ندرة من يقومون بصيانة مثل هذه الأجهزة في المنطقة إلا أن مهدي حوّل غرفته في البيت إلى ورشة لصيانة تلك الأجهزة لذوي الإعاقة البصرية بدون مقابل محتسبًا الأجر والثواب من رب العالمين. رحم الله أمًا أنجبتك يا مهدي وأبًا رباك علي الخير والصلاح.
سبعة وثلاثون عامًا صراع مع المرض الخبيث الذي رافقه طوال مشوار حياته وأصابه في أجزاء متفرقة من جسده حتى بدى أثر مشارط العمليات واضحًا على وجهه لكن أروقة المستشفيات والمشارط لم تطل نقاء وصفاء وبياض قلبه والابتسامة التي لم تفارق محياه والعطاء الذي لا ينضب ولم توثر الحالة الصحية يومًا على عزيمته وإصراره وإيمانه بما قسم الله له. فإن سألته عن الحال فلا جواب عنده غير الحمد الله.
أقتبس من كلام أحد المعزين في هذا المصاب الجلل “عجبت كيف للتراب أن يأكل جودك يا مهدي”، وقال آخر “إنسان عظيم فقدته القطيف”، أما أحد أصدقائي المقربين فذكر في رسالته النصية “رحم الله مهدي أيقونة الكفاح”، وكما ذكر الكاتب إبراهيم الزين “مهدي قصة كفاح لا تموت”. نعم سيبقى مهدي معلمًا وملهمًا للمبصرين قبل المكفوفين، وسيبقى إنسانًا عظيمًا بعطائه وما قدمه لمجتمعه وبالخصوص لذوي الإعاقة البصرية وستبقى قصة كفاح مهدي مدرسة للصبر والإصرار وتبعث الأمل من جديد لكل من نالهم وأصابهم الإحباط. وسيبقى مهدي نموذجًا للإيمان بما قسم الرحمن. رحم الله مهدي وأسكنه فسيح الجنان.
فرحيلك يا مهدي قد أدمى القلوب ولا يسعنا في هذا المقام إلا الامتثال لقوله تعالى {وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون} صدق الله العلي العظيم.