درج مهدي بين أروقة المستشفيات وهو لم يفطم بعد، حاملًا معه مرضه الذي لازمه من مهده إلى لحده، وقد أصبح ذلك الخبيث صديقه الذي لا يفارقه ساعة، وإن غاب عنه أحيانًا لفترات تطول أو تقصر.
كبر مهدي وفهم، وأيقن أنه سوف يعيش صراعًا مع هذا الرفيق، فأيقظ الأمل في نفسه ليتخذه عونًا. ولم يتوان العم العزيز والده في بذل الغالي والنفيس من أجل إنقاذ ابنه والذي غير المرض ملامح الجمال والنور لديه بسبب مشارط العمليات، حيث استقر به الحال على الهيئة التي نعرفه بها؛ مهدي حين فقد بصره تمامًا، ولكننا لم نكن نعلم بجوهره الذي حرص والداه على تنميته وإشعاله بمعنويات جبارة جعلته ينتفض، ليكون إنسانًا آخر لم يترك مجالًا لمرضه لكي يهزمه، بل اتخذه حافزًا للانطلاق في رحاب الحياة كيفما قسم الله له وقدر.
نعم لم يهزمه المرض، ولم يترك للاستسلام طريقًا يلج منه إلى نفسه. فهم وفطن وانطلق، وبدأ بالدراسة وتميز وأبدع حتى حصل على الدرجة الأكاديمية من جامعة الملك سعود، وكان يخطط للحصول على درجة الماجستير، وهو الذي حصل على وظيفة وأصبح مدرسًا في إحدى مدارس ذوي الإعاقة البصرية، بل ودرَّس حتى المبصرين.
فقد البصر، ولكنه أشعل البصيرة، فاتقدت لتشكل عزيمة جبارة كان نتاجها نجاح باهر لإنسان لا يملك أقل القدرات ظاهرًا بسبب ما يعانيه ويفتقده، فإذا هو يتفوق ويسبق حتى المتفوقين الأصحاء، بل إن هواياته كانت أكثر دهشة من دراسته فمن شغفه بالهندسة الصوتية إلى إصلاح الأجهزة الإلكترونية، وإقامة الدورات التعليمية للمكفوفين وليس انتهاء بالتعامل مع جميع برامج السوشيال ميديا.
مهدي العرفات، هذا الإنسان الذي جعل من المستحيل حملًا وديعًا بين يديه قدم دروسًا عظيمة للإنسانية، وليت كتاب الروايات والقصص يتلقفون سيرته ويجمعونها على هيئة سيرة كفاح يدرسونها للأجيال وللأصحاء الذين تركوا مقاعد الدراسة، بل لم يدرسوا نهائيًا، واستسلموا لحياة الفراغ، والتسكع في أزقتها البائسة دون هدف وغاية.
مهدي ليس قصة كفاح فقط انتهت برحيله، بل هو نقش عزيمته وإصراره على صفحات التاريخ، لكي يخجل مفتولي العضلات ويقول لهم بأن الإنسان هو عالم من الطاقات والقدرات والملكات تحتاج فقط أن تشرق وتضيء لا أن تهدر بالإهمال والإحباط والعزوف واليأس.
سبعة وثلاثون عامًا هي عمر مهدي العرفات من المهد إلى اللحد كانت كفيلة بأن تجعل منه دستور حياة بتفاصيل مدهشة، وعلى من يريد معرفة المعنى الحقيقي للحياة وعلى من يبحث عن طريق الكفاح وطوق النجاة فليقرأ سيرة مهدي ويتخذها نبراسًا، وسوف ينجح ويصل لما وصل له مهدي.
“لم يهزم المرض مهدي يا عمي بل هو الذي هزم المرض، ولكن لقضاء الله وقدره كلمته يا عم” هذا ما قلته لعمي أبو علي جد أبنائي أثناء مراسم الدفن، وقد كان يبكيه بحرقة ولوعة، فمازحته وقد اغرورقت عيناي: عمي أنت تحب مهدي واجد واحنا بنغار كذا،
فتبسم. تبسم وهو يبكي.