حب الله تعالى وتأثيره في الصحيفة السجادية

ورد في الصحيفة السجادية: إلهي مَنْ ذَا الذي ذاقَ حَلاوَةَ مَحَبَّتِكَ فَرامَ مِنْكَ بَدَلًا، ومن ذَا الذي أنِسَ بِقُرْبِكَ فَابْتَغى عَنْكَ حِوَلًا. (مناجاة المحبين).

ما تحمله تلك الأدعية والمناجاة في زبور آل محمد (ص) والمسماة بالصحيفة السجادية، هي مجمع مضامين عالية تحمل فكرًا عقائديًا وتوجيهات أخلاقية وتربوية تصنع شخصية الإنسان، بما يتناسب مع المهمة الرسالية له وهي خلافة الله تعالى في أرضه.

يبيّن لنا الإمام السجاد (ع) في درة من درره الثمينة مفهوم حب الله تعالى والآثار المترتبة عليه، فالحب بالمعنى اللغوي وهو ميل القلب إنما هو المرحلة الأولى والدرجة الدنيا للحب الحقيقي، ومنها تبدأ رحلة السالكين نحو المراحل المتقدمة منه وما يتطلبه من استحقاقات روحية وسلوكية، فإن المتفرد والمستحق لحب العباد هو من أنعم عليهم بنعمة الوجود وتدبير شؤونهم واللطيف بأحوالهم، وعندما ينطلق المرء من هذه النقطة ناظرًا إلى الكون وما فيه مما يدل على عظمة وحكمة واقتدار الخالق، يزداد إدراكًا وفهمًا للدور الوظيفي المناط به في هذه الحياة الدنيوية بما ينال به رضا المعبود وتجنب مواطن سخطه، وومضة الوعي هذه تتطلع إلى كل المخلوقات من حوله فيراها تعيش دورتها وحركتها الجوهرية لتصل إلى مرحلة الضعف والإنهاك ومن ثم الأفول والتلاشي؛ لتتكون عنده فكرة ناضجة ورشيدة بأن نعيم الدنيا حطام زائل كالبذرة، فبينما تراها تترعرع وتكبر وتورق وتورد حتى تصل إلى مرحلة الاصفرار واليبوسة، وهكذا بالنسبة لدورة الحياة للإنسان فمتى ما استكملت حلقاتها ومراحلها وجاء الأمر الإلهي ليأذن له بالرحيل عن زينة وزخارف العالم الذي يفتن ضعفاء العقول وممن يتبعون شهواتهم كالأعمى، بينما المحب لله عز وجل والعارف بقدره والمتيقن من قدرته ووجوده معه في كل آن ومكان؛ يتحرك وفق قاعدة الحذر من الأفعال العبثية المنافية لكمال عقله ويتجنب العيوب والقبائح المسقطة له من عيون أبصر الناظرين عز وجل.

وإن عين الجهل ومطبق الغفلة أن تكون بوصلة القلب ومهوى الفؤاد متعلقًا بشيء من نعيم الدنيا من مال وعقار يحسب أنه قد أسبغ عليه الخلد فلا يرحل عنه أبدًا، والمحب الحقيقي لله عز وجل والعارف بآياته المبثوثة في الكون والمذكرة به تعالى لا يمكنه أن يفضل ويؤثر لحظات سخطه وحلول غضبه في ساعة نزوة؛ لتعقبها الندامة على ما فعله من مخالفة، فالعاقل يفعل ما يتناسب وكرامته الحقيقية المتمثلة بنزاهة النفس وطهارتها من دنس المعايب ومستنقع الخطايا، كما أن عواقب هذا التجرؤ على حرم الله تعالى يقابله ما هو أعظم من هذه الخسائر في الدنيا، إذ يكون عرضة للعقوبة المتناسبة مع غضب جبار الجبابرة، وهذه المرتبة من العبادة (عبادة العبيد) لا تتناسب مع مرتبة الحب الحقيقي الصادر من عقل واع وقلب يستشعر وجود الله تعالى في كل شيء ونعمه المتوالية عليه مع كل نفس يتنفسه.

يقول الإمام السجاد (ع) بأن محبة الله تعالى لها حلاوة نفسية تتمثل بالطمأنينة أمام صروف الزمان وقبضة الأيام المؤلمة، وثقة بالخالق فيما يقدره سبحانه له فالمؤمن كله يقين بأن ما يقابله من سراء أو ضراء يصب في مجرى مصلحته.

وذلك التأثر الحقيقي في لحظات الذكر وقراءة الأدعية الواردة عن محمد (ص) وأهل بيته (ع) حيث يستحضر المحب ما فيها من مضامين عالية يحلق بها في عالم الروحانيات بعيدًا عن ضنك الحياة وآلام فوات شيء من حظوظها، يحيا مع تلك المعاني الجميلة التي يفصل فيها الإمام السجاد (ع) معالم العلاقة مع الخالق العظيم وأبعادها، ويحذر مما يضعف تلك العلاقة ويبعد العبد عن مظلة الرحمة الإلهية الواسعة، فمتى ما تآزر الوجدان الإنساني مع محطات الدعاء ازداد مرتبة في معرفة الله تعالى والتمسك بخيط الخشية منه تعالى، وأما عنوان ذلك الحب فهي تلك الدمعة المنسكبة من مآقي العيون ندمًا على ما فرط في ساعات ضعفت فيها مناعته الروحية ورقابته على جوارحه، فاستجاب غافلًا لصوت الشيطان وتسويلات النفس الأمارة بالسوء، فيعقد العزم على الرجوع إلى الله عز وجل مستغفرًا منيبًا، إذ الدعاء محطة روحية يجدد فيها العبد حبل الوصال مع محبوبه.

والأنس بذكر الله تعالى من ثمار ونتاج تلك المحبة، فقلبه يهيم بتلك اللحظات التي يجلس فيها بين يدي مائدة المناجاة لينقض عنه شوائب الغفلة والتقصير والخطايا، كما أنه يترقى بين درجات الكمال واكتساب الفضائل وتقوية جبهة المناعة عنده تجاه جنود الشيطان الرجيم.



error: المحتوي محمي