تَزخَر جامعة “نورت تكساس” الحكومية العامرة، بمدينة “دنتون” النامية، في شمال ولاية تكساس الأمريكية، بمختلف التخصصات، وتعدد الأغراض والدراسات الأكاديمية، في سَائر العلوم الإِنسانية، ومَعظم الفنون الاجتماعية، وتوسع منظومة قائمة التخصصات العلمية الحديثة… وتَعج بعشرات مبانيها ومرافقها الفخمة المكتظة، بعشرات مِن آلاف الطلاب والطالبات مِن الأمريكان، ومِن مُختلف دُول العالم قاطبة… وقد شدّوا رحالهم جميعًا، بطِيب خَواطرهم السمحة، وطُول مَسيرة جَحافل قوافلهم الزاحفة، قاصدين أحضان الجامعة العريقة؛ لطلب العلم؛ ونيل الشهادات الأكاديمية والعلمية، في مُعترك ومُختلف أصناف، وأنماط تخصّصاتهم الأكاديمية المرغوبة… وقد كُنت واحدًا مِمّن تخرّج في تلك الجامعة العريقة ذاتها، في عام “1986” بدرجة البكالوريوس… وبعد التخرج الميمون، عدت بأدراجِي إلى مسقط رأسي؛ والتحقت بمدارس الهيئة الملكية، بمدينة الجبيل الصناعية؛ وانخرطت في مُمارسة تدريس مادة اللغة الإنجليزية، بمدارسها النظامية الناهضة، حتى سِن التقاعد!
ولَعلّ مِحور حَديثي الرئيس، يدور حول مَعلَمٍ علميٍ ثقافيٍ، ومَنارةٍ شاهدةٍ حيةٍ على حاضر العصر، في عَالم آفاقٍ، ومّراقٍ، ومَحافلٍ،
ومُنتدياتِ الحضارة المعاصرة، التي يزخر بهما صَرح الجامعة العريقة المذكورة ذاتها… ألا وهو مبنى “التجمّع الطلابي” الذي يحوي عددًا مِن الأدوار؛ ويَزخر بفيوضٍ لامعةٍ مِن أنجح الفعّاليات، وأنجع الأنشطة الطلابية؛ والجدير بالذكر، أَنَّ مبنى مركز التجمع الطلابي الزاهر، يتوسط مَنظومة مباني الجامعة؛ ويُمثل في قوائم مبناه الفخم، حلقة وصلٍ متينةٍ، بين واقع المحتوى الدراسي الأكاديمي، وتطبيقاتة العملية… ويَضم المبنى الجامع في الدور الأرضي: مخزن بيع المقررات الدراسية، ومُلحقاتها؛ وصناديق البريد، وبوفيه فاخرة للقهوة، والكعك، والفشار، والمثلّجات، والمشروبات الغازية؛ وفي زاوية جانبية ردِيفة فارِهة، ترى نفسك منجذبًا؛ ومزهوًا، بخرير مَسقط شلالِ ماءٍ نميرٍ داخلي، مع جلسة استرخاء مريحة هادئة؛ ومِثلها، صالة واسعة مفتوحة لاستراحة ومذاكرة الطلاب والطالبات؛ وهناك، بمحاذاتها القريبة، تقبع رَدهة مُتسعة أخرى، تعلوها شُرفة “بانورامية” تطل عليها، مِن الدور الأول، وقد أْحِيطت الشرفة المستديرة العُلوية، بطاولات ومقاعد لجلوس واستراحة الدارسين… والجدير بالذكر، أَنَّ تلك الردهة القديمة التحتيّة، مخصّصة لعروض التدريبات السريعة؛ ومُعدّة لتطبيقات “البوروفات” الأولية، لحلقات الموسيقى الطلابية؛ وتصميم نماذج مُنتقاة مِن فنون الرقص الأدائي “الفلكلوري” المتقن، لمختلف الثقافات الحاضرة أصَالة، في بُقعة المكان، وعَقد الزمان… وحَسب علمي، أنَّ الجامعة المذكورة تحتل المرتبة الثانية في تدريس مادة الموسيقى، بعد جامعة “نيويورك” آنذاك.
أما الدور الأول- بعد الأرضي مُباشرة- فيزخر بحركةٍ نشطةٍ دائبةٍ عارمةٍ، لمُلتقى طلاب الجامعة قاطبة، حَيث يوجد مطعم للوجبات الخفيفة؛ وبجانبه تأخذك بتحبيب، صَالة استرخاء لاحتساء القهوة، وتبادل الأحاديث الودية، والدردشة الثنائية؛ إضافة إلى ذلك، هناك قاعة مُدرّج “الكُولوسيوم” الفارهة، بمدرّجاتها الفخمة الأنيقة، التي تُستَثمر، وتُستَغل، وتُخصّص أجواؤها الساخنة لإقامة أحدث الندوات، ذات المواضيع والأحداث المستجدّة، في جَوهر صميم خِضم الساحة الثقافية، والاجتماعية، والعلمية، على حدٍ سواءٍ؛ وفي مختلف العلوم، وسائر الفنون المعاصرة!
ولَعلّي أتذكر مُصادفةً، واستظهر طَواعيةً، باستحضار صَريحٍ لَائحٍ، أمسية الاحتفاء التكريمي، والإلقاء الشعري الساخن، في احضان وأكناف متّسع قاعة الكولوسيوم الفاخرة ذاتها، لشاعرة أمريكية زائرة موهوبة، ذات البشرة السمراء، والتي تلقّبها النخب الأدبية المثقّفة هناك “بالأميرة السمراء”… وكأنّي بها قائمةً منتصبةً، وهي تنشد وتترنّم، بفخرٍ وحماسةٍ، فوق صَهوة مِنصة الاحتفاء التكريمي، ببعضٍ مِن شَذراتٍ، ومُقتطفاتٍ، وشَطرٍ جَاذبٍ مِن مُختاراتٍ مِن أجمل، وأرقّ، وأندى فصيح ورفيع شِعرها الماتع الرائع؛ وقد لفت انتباهي وِحدة بناء قصيدتها الأُم العصماء، التي نشرت ونثرت أبياتها حُسنًا وزَهوًا، مِن فُيوض ذائقة همسات أنثوية حانية رقيقة؛ وقد قايضتها تِباعًا، وقتئذٍ، بقَبولٍ بَلاغي، واستحسانٍ أَدبي ذاتيين… وتُعد الشاعرة الرائدة، بقامَتها الشابة الأنيقة، وِجدان مَهوى سِربٍ شاعري مُغردٍ؛ ومَهبِط جَمعِ طيرٍ مُهاجرٍ عائدٍ، مِن أجمل، وأجل، وأجزل نسق ونظم إبداعات وجدانية صادقة جاذبة، أحكَمت وأتقنَت الشاعرة صِياغتها باقتدار وتمكّن، مِن صَميم وعَميم داخلة مُهجة سَعة أنفاس الذائقة الشاعرية المتيقّظة، للأميرة السمراء، بأطرب إهداءات بلاغية ضافية، مِن أسمى أكاليلِ باقاتٍ شِعريةٍ فاخرةٍ متميّزةٍ؛ ومِن تدفّقِ سيلٍ مِن أرقى قُطاف “أدبيات” قوافي أبياتها الذائعة الرائعة، التي تُصوّر، في مَعرِض أبياتها المتجلية الدانية “بترول العرب” باليد الحانية الرحيمة، التي مَا فتِئت تمسح بأنامِلها الندية، في تقديم لمسات حانية رقيقة، نابتة بامتياز وإتقان، في خاصِرة مَسرح مَلَكة الشعر الناهِضة؛ ومُنداحة بسماحة وأصالة، وَسط أعتى هَيكل قناطر عُبور صَرح الحضارة المعاصرة، قلبًا وقالبًا؛ ومِمّا زادني إعجابًا وجذبًا، لحَلاوة وطَلاوة، ورِقة ديباجة شِعرها السلس الرصين؛ فقد دنوت واثقًا- بزخم وِجدانٍ مُنتشٍ- لحظةً، مِن عُرضِ زاوية الاستراحة الجاذبة المُعدّة لتكريمها، بعد أن مَلأَت، وأفاضَت، وجادَت بريع عُنفوان مَلكتها الشاعرية المنتشية، بأجواء سَاحرة سَاخنة- في أحضان وأجنحة قاعة الكولوسيوم الفارهة- والمزدانة بعُذوبة أنغام ناياتها الرخيمةٍ الناعمةٍ؛ وقد حَسبتها، بنفخ قائم نَصلِ أْرغُولِها الشجي الندي تنعُّمًا، لن تنتهي… وحِينئذٍ، بعد أنْ عرّفتها برسم بطاقتي الشخصية المتواضعة؛ طفِقت أْثني وأَشكر لها تلك المشاعر الجياشة الحُبلى، وفَيض الذائقة الشعرية الشاعِرية المتميزة!
ولاَ أكاد أنسى وقتئذٍ، الموقف الإنساني المواسي العطوف، لطالبة أندونيسية مُسلمة، والتي لاقت حَتفها حَسرةً وأسىً، في حادثٍ مُروريٍ مُروّعٍ، في غُرة صبيحة إجازة عطلة الأسبوع… ومَا إنْ عَلمت إدارة الجامعة بصدى الخبر المُفجع المُدوّي، حتى أْقامت لها حفلًا تأبينِيًّا تكريمِيًّا واسعًا، في رَحيب أحضان قاعة الكولوسيوم الحاضنة الحاضرة، بمبنى التجمع الجامع، والملتقى الرائع… وكأن الطالبة الراحلة فردٌ متأصّلٌ مِن جَذر أسرة أفراد رُفقة المجتمع الواحد المتماسك، قلبًا وقالبًا!
وفي وَسط رَسميات “بُروتوكول” ذُروة سَنام ذلك المشهد الإنساني التأبيني المؤثر، ورَصيد تلك المراسم الدّرامية الجيّاشة، الصادرة مِن أعماقِ أنقى نَبع؛ وأغوارِ أعذب مَعين؛ ومصارف أنقى أرصِدة المشاعر الوجدانية المضّطربة وقتئذٍ؛ ولا أكاد أنكر، أو أغفل عن إضفاء سَحنة أيقونة استدارة الفَلقَة الذهبية المشعّة، لتتويج المَحفل بتاجه الثقافي، برَشاقة، ونُعومة، وأنَاقة وَشْي زِيّهِ الإنساني اللائق؛ وإسداء أسمى درجة صَقيل لَمعانه الفائق، فوق نواصِي الهَامات “النورانية” لمّن يستحقونه، شَرفًا وكَرامةً، مِن جَمع الحشد الطلابي الحافل الشاهد المُحتشد آنذاك- احترامًا وتبجيلًا- في جُلّ زوايا ثرى جُمعة الحرم الجامعي الأغر، ووَسط أَندى احتفالٍ طلابيٍ عامرٍ، وأسمى مَحفلٍ إنسانيٍ ظافرٍ، مُحتشدين؛ ومُكلّلين بكَريم وعَميم أْلفةٍ؛ ومَحفوفين بسَماحة ودَماثة عِشرةٍ، على تُربة صعيدٍ واحدٍ؛ ومُنتعِشين ومتآلفين برقّة وزهو أَنفاس بذل جُود النفس، واقتسام النفيس؛ وانتصارٍ، صَريحٍ مُريحٍ، مِن مَزيجٍ مُتآلفٍ، مِن جَسارة وعُصارة رِقّة وعَطاء سَريرة لَبابَة البوح الإنساني المتأصّل في داخلة مَكنون ذائقة النفس البشرية السامقة؛ والذي أمسى سائر حالها المُتردّي يندب حظه المُتهاوِي المُتهالِك رَدَحًا، بعد إمدادٍ، وتمددٍ، وتمطّطِ رُزء نفرة الزحف الهادر الصادر، مِن أرذل سَقط صِبَغِ العولمة الوخيمة، والتي أظنها ظَفرت وفَازت، بإحداث جُرحٍ غائرٍ دامٍ، في أغلب أوصال جَسدٍ يتجمد في طُول شرايينه عَبيط الدم النازف، بحُرقةٍ “ثكلى” ويتصلب تدفقه، بتَعسّفٍ مُضنٍ، بمعزلٍ عن تحريكِ أدنى طرفٍ خَدِرٍ؛ أو تطويعِ أقل رَمقٍ مُواسٍ؛ أو تسجيلِ أقرب انتماءٍ رَشيدٍ؛ أو تفعيلِ أعذب اهتمامٍ سَديدٍ؛ ليَعود ويَرتد سابق ورائق مُعدّل “أْوزُون” النّفَس النقي المنعّم كَرّةً، بنسمة سلِسة عَائدة واعِدة، في مُتّسع عَنان أفق أَجواء مُلتقى التجمع “التكساسي” العطِر، ولو مَرة واحدة، عابرة شاخصة… حتى لا تسمح وتفسح- لعاصفة “العولمة”- القاصفة مُواجهةً، باصطبارٍ واعتبارٍ، بتغلغلٍ خَسيسٍ، لثُمالة الرواسب البلهاء؛ وتُؤذِن، بتسللٍ رذِيلٍ، لبَقايا شوائبها المستحدثة الهوجاء؛ وتجبرها قسرًا على التّنحِي الأريَحِي جانبًا، عن سَوّية جادة مَسرى الأجواء العطِرة؛ وترغِمها إكراهًا، على تقديم نزاهة التخلِية الطوعية، لسوية واستقامة مُنطلق مَجراها النضِر، كما كان دَيدَن ومَسلك سِيرتها الأخلاقية المُثلى؛ ومِمّا استقام وانتظم عليه طَبع مَسيرتها الإِنسانية الفُضلى، قبل أَنْ يستفحِل ويستشرِي زحف أمور وشرور العولمة المدمّرة؛ ويصعب عِلاجها الشافي!… وقبل حُلول أنماط قُيودِها الضاغِطة؛ وهُطول بَعثرة شَتات بُنودِها العاصِرة؛ ونُزول نَزغ لَوثاتِها الساقِطة، ووُغول لواحق، وصِبَغ عضّات أنيابها القاطِعة؛ وهُبوط نوائب سُمومها السلبية النّتِنة الملوّثة، وبالله التوفيق!