بكل الفرح والمسرات مزهوات بازيائهن الملونة، يرفلن بالهاشمي، عيونهن مؤطرات بالكحل والحبور، شعرهن يفوح “بدهن الرازقي” وباقات “المشموم”.
كفوفهن مخضبات بالحناء، و”الديرم” صبغة شفايف ، يتباهين ببريق الذهب المطوق على الرسغ والجيد .
كل هذا الألق الفاتن يتوارى ويختبئ ، لاكحل ولاطيب ولا لون زاه، يسدن ستائر الأسى على كيانهن ، فيتشحن بالسواد .
السواد لغة
السواد راية
السواد حكاية .
كنا اطفال لانحفل بالشهور ولا التواريخ
بمجرد أن نرى النسوة هجرن زينتهن وارتدين السواد ندرك بأننا على اعتاب أيام عاشورا .
لغة السواد اقرؤها بدءا من مظهر والدتي وزوجات اعمامي وعماتي وبناتهن وأمهات الأصدقاء وكل نساء الحي ، وينعكس ذلك التحول حتى على مزاجهن ، يكفن عن المزاح، وتغادرهن البسمات، ملامحن جادة وقورة، وبين وقت وٱخر يسحبن الونات ” ساعد الله قلب الوديعة ” ذكرى فاجعة وعاطفة جياشة ترديهن بكاء ولوعة دون صوت للقراءة، يتهيء لهن بأن سيناريو كربلاء ٱت ، سيبصرونه واقعا قادما ، سيماهن في وجههن من أثر الحزن ، يتسابقن في خدمة المٱتم حبا وطوعا .
مع أبناء عمي نستشعر ايضا قدوم شهر محرم قبل أن يبدأ بأيام معدودات، من خلال اتشاح حسينيتنا بالسواد “مأتم بيت شلي” الضارب في القدم الذي أسس قبل 140 عاما على يد جد والدي حجي كاظم شلي .
اقواس المأتم واعمدته الشامخة يتغير لونها الطيني وتتحول إلى حلكة معتمة، نرى الأعمام عبدالرسول وعبد علي وصاحبه خضير الحمام هم الذين يكسون الجدران بالسواد ويثبتون في وسطها مستطيلات قماشية خضراء وحمراء لامعة ، مكتوب
عليها كلمتين او
كلمة واحدة :
“مظلوم حسيناه” ، “حسين شهيد ” ،
“ياغريب كربلاء” ،
“واحسيناه ” ، “وامظلوماه” ،
كلمات خيطتها انامل النسوة بقطع قماشية بيضاء ، والخط عفوي وحر يشدنا بعد أن نتهجى الأحرف ، نتأمل والفكر حائر ، ندرك ولاندرك، نفهم ولانفهم، الفضول يأخذنا تصورا محدودا عما ماوراء الكلمات وماتحمله من مضامين عصية على وعينا ، نلوذ بإمهاتنا فتقربن لنا المعنى حسب عقلياتنا، تلك الكلمات يرددها الخطباء عند مفتتح المجلس بالقاء القصيد ، وتأخذ دلالة أخرى اثناء ذروة “المصرع” ، جرس انفعالي يجسدها بعمق مأساوي، فتتلون وتتلضى كما لو أنها كائن حي يتعذب ويتلوى الما بعد الم من هول المصاب .
اقتران الكلمة بطبقات الصوت يضخ فيها معان متعددة والخيال يتشظى صورا لواقعة الطف
ومعها نرى
كفوفا الرجال تهوي على رؤوسهم والجباه، ينخرطون في البكاء ودمع العين منسكب .
جمل تتوالى على مسامعنا اكبر مما تعلمناه على مقاعد الدرس الأولية ،
“ياليتنا كنا معكم”،
“بأبي وأمي أنت ياحسين ” ، “كبش الكتيبة ” ، “شيخ العشيرة” ، “روحي لك الفداء ” ، لايوم كيومك يا أباعبدالله ” ، عبارات تتشكل في اللاوعي ، عبر طقس عاطفي ليس له مثيل، ارتحالات وجدانية تصيبنا بالدهشة والحيرة. وفي لجة النحيب وتأجج المشاعر يسقط رجال وسط المجلس كأنهم صرعى وماهم بصرعى
” افلان استسر ” ، يحمل ويمدد ارضا بالقرب من النوافذ، يبعد المتجمهرين عنه ليشم هواء نقيا، يهفف وجهه بمروحة من خوص، ويرش عليه ماء، يدلكون يديه واطراف ارجله واكتافه ، شيئا فشيئا يفيق من غيبته، يسند ظهره على الجدار شارد الفكر ، ويقولون له “مثاب ومأجور ” .
كم كنا نتوجع لمنظر “المستسرين” لحظة سقوطهم على الاشخاص الغافلين، ونتسائل لماذا غابوا عن الوعي، هل من الجو الحار صيفا و”خنگة” المأتم بالاجساد المتراصة كتفا بكتف، فتنكتم الأنفاس من قلة الاكسجين، “يغيب هواهم”، يختل توازنهم، يفقدون السيطرة على انفسهم، فتهوي اجسادهم دون حراك ، أم من حماسة الخطيب الشديدة وتصويره الفضيع لاهوال كربلاء؟ ،
ربما الاثنين
معا، والمشهد برمته لايحتمل فيغشى على اصحاب القلوب الرقيقة، اصحاب الخيال الواسع، سريعوا التأثر، اعينهم تفيض بالدموع الساكبة، تتجلى ارواحهم
من فجائعية المصيبة .
خطباء لله ذر مهجتهم المتفانية، يتلون أية ويفسرونها ، يشرحون أحاديث عن النبي وٱله ، يستشهدون بمرويات العلماء والمراجع العظام ، والشعراء الاقدمين، يسردون تاريخا مأساويا يفوق التصور ، يجددون حورات ويستعرضون مشاهد حدثت قبل 1400 عام ضمن وقت وجيز .
إنها حناجر مؤثرة وشجية تهل الدمعات مدرارا، تلاوين شعر واطوار لحن، طلوعا ونزولا ، باشعار شعبية وفصيحة ذات نكهة عراقية ولهجة محلية، يتواشج هذا الزخم انينا جماعيا مسترسلا ، صرخات فزع وصيحات جزع وانفاس هلع ، يضج المجلس برمته بانغام الأهات وايقاعات البكاء، سيمفونية نوح ليس له مثيل، وعند الختام يسحب الرجال اطراف غترهم ليجففوا مادفقته المائقي من أحزان .
للطفولة عوالمها وشفافية البراءة
احاسيس متباينة ، في أيام عاشوراء مشاعرنا متناقضة بين الحزن والفرح ، حزن بحلول عشرة محرم وفرح بأكل المحموص الذي يكثر طباخوه ويتفنون في درجات طعمه ودكونة لونه .
بمجرد أن تفوح رائحته من “درايش” و”شمسات” الدور يسيل اللعاب، ونتتظر متى وقت “النشاب” ، لحظة الغرف من القدور، نجده بوفرة في مجالس النساء ونعرف البيوتات المميزات في طبخه ، أكلته بركة وحباته مشبعة ، حين وعينا قليلا كأن يؤرقنا المثل الدارج شعبيا
“اللي يعزي واللي مايعزي يأكل عيش لحسين ” وبعبارة أخرى “اللي ينوح واللي ماينوح يأكل عيش لحسين ”
بغض النظر عن اسقاط المثل على امور حياتية أخرى وقد عرفنا بعده الدلالي المتوسع
فيما بعد ، الا إننا وقتئذ كنا تستشعر
المثل كأنه يعنينيا يقصدنا يلاحقنا
حال تخلفنا عن
حضور القراءة اوخدمة المأتم
بعض الأصوات كانت تتقصدنا :
” كيف ماتحضر المجالس وتأكل عيش لحسين ” ، نحلف وان كنا حضرنا مجلسا واحدا او اثنين ،
” تسمعنا واجد ” هي المشاكسة باثبات احقيتنا من “مشاكيب المحموص “، نريد أن نأكل من دون عتب من أحد ولاتوبيخ من الأقارب ولسان حالنا “نحن في ضيافة الحسين ”
لكننا احيانا نشعر بالذنب اذا اكلنا ولم نحضر داخل المجلس ولم نشارك في خدمة المأتم .
نفز في اليوم التالي لمكان موقد النار
لنأخذ الدلة والفناجين ندور بهما بين الحضور قبل وبعد القراءة وكذا نفعل مع”جيك الماء”
او”سطل ممتلئ نصفه ” ليسهل علينا حمله والتحرك به في ارجاء المجلس ، نغرف منه بواسطة كأس معدني يشرب منه العطاشى ، ونردد :
” العن يزيد .. العلن يزيد” كأس واحدة من فم إلى فم واذا بقي شيء من الماء يشربه الٱخر دون غضاضة او تحفظ ، ترفع الرقاب والايدي تدلق الماء في البلعوم ، ونقول له ” هنيء ” ، على أثر حماسنا وسباقنا لتوزيع الشاي او القهوة، مرات قدمنا الفنجان سهوا باليد اليسرى، فيأتينا النقد اللٱذع فورا، نتحرج وننسى الأمر بمجرد تعديل الحركة والشيء المتعب اذا امرنا بتجهيز النارجيلة بوضع “التتن” والجمر على الرأس الفخاري
امر يحتاج لمهارة
والخوف من دحرجة جمرة من “المنقاش”
قد تصيب ثوبنا وتحدث ثقبا فيها ،
او تقفز على ارجل احد فنرمى بكلمات حادة لكن المسامحون كثيرون ، يدركون ضعفنا .
حين نوزع النارجيلة
وندور بها على الحضور، تتنقل ايضا من فم إلى فم، فقط مسحة باليد ويجر “بوز ” التتن المحترق ب”شفطة” عميقة محدثة حفرة
في الخدين مع اغماضة العينين ، يغيب الرجل لثوان ، ثم تنفث شفايفه المزمومة دخان بلون الرماد، ويصفعنا ب “سعلة” في وجهنا وتتبعها بصقة بعد أن يرفع المدخن طرفا من الحصير ويلقي “تفلته” ارضا ويدعسها بقدمه اليسرى ، وهو يتمتم “قبحك الله ياشمر الضباب..ياعدو الله” .
ذات مرة
سألت رجلا عجوزا
عن شكل الشمر ؟ قال : ” اعوذ بالله من هذي خلقه شكله من جيز القرود والخنازير” .
تهت في خلق صورة مركبة له ، فأنا لم اشاهد بعد تلك الحيوانات، فقط رسمة في كتاب المطالعة في الصف الأول الابتدائي ، لقردة وضعت قطعة السكر في الماء، ثم ذابت وهي متعجبة ، لكن شكلها يدعو للإبتسام ، ورسمة اخرى في الصف الثاني لقردة جالسة على طاولة نجار تتلوى الما بعد أن علق ذيلها وسط لوح نشر جزء منه ! ، وبين الرسمتين كنا طلابا صغار نضحك وفي نفس الوقت نتعاطف لمٱل القردتين ، لكنني لم اتبين شكل هذا الحيوان على أرض الواقع فكيف برؤية خنزير .
أسماء الظلمة وافعالهم الشنيعة شكلتها البراءة بملامح مخيفة ذميمة وذات رائحة نتنه !
حين وقعت عيناي لأول مرة على صورة خنزير عبر احدى المجلات في نادي النسر بتاروت 1971، ادركت بأنه اقبح الحيوانات ،
فنبؤة الإمام لقاتله اصابت كبد الحقيقة.
تنافس محموم بين اولاد عمي لخدمة “مستمعة” حسينيتنا، وهمة تتضاعف بتشجيع من امهاتنا عبر لفظ محرض “لاتصير ياولدي خايب ، روح اخدم في المٱتم، الله يوافك دنيا وٱخرة ” ويأخذ فعل الأمر مداه في نفوسنا حين يبتدئ الخطيب قراءته : “ماخاب من تمسك بكم سادتي” ، بين خائب وخاب يقترب المعنى ويلتبس ،
وانقل العبارة الى امي فتجيبني حسب فهمي بتبسيط الجملة الى ذهني “ماخاب يعني ماخسر ، فاز ” وتردف وتقول ” اذا تسمعت وحضرت عزية لحسين وقمت بزيارة مراقد الأئمة الأطهار بتروح الجنة “، فجاءة ترفع كفوفها وتقول “”حشرنا الله
مع محمد وٱل محمد في جنان الخلد ” .
يقين المؤمنين والمؤمنات طمأنينة نفس ورضا وراحة بال .
بساطة عيش الأولين هي أجواء سائدة في مجالس العزاء القديمة فلا حرج بتوزيع الگدو والنارجيلة، عرف دارج عند كل مجلس ، برغم عبوسنا من هول الرائحة التي تتاطير من الأفواه كأنها دخان بخور، تحشرنا ضيقا في الصدرور ، لكننا نشعر بالرضا حين يكافئنا المدخن بجملة امتنان ” النارجيلة تعدل الرأس ..بارك الله فيك ياوليدي “، وطوال قراءة المجلس تتصاعد انغام السعال وتختلط مع تلاوين البكاء .
مااروع حناجر خطباء الأمس أية مهجة ملكوها واي انفاس زفروها ، يجلجلون المأتم دون مكبر صوت، يهتفون بالٱهات، والأطوار الحزينة ، يفجرون المجلس صراخا وعويلا ، وعند اشتداد المقتل ، يلقون بغترتهم ارضا ويكسرون الاعلام الصغيرة المثبة عند متكئ المنبر، يستحضرون جحيم كربلاء بابعادها المأساوية، صوتهم يزلزل المجلس وخارجه، تصل لأذان النسوة المفترشات حصيرا او قطعة “خيش” يتسندن على جدران “الساباط” وهن متكومات بشيلاتهن ينتحبن على اهوال المصيبة ، وأية مصيبة ! انفطر لها الفؤاد وخشع لها البصر .
وعلى ضوء الفوانيس تأخذني والدتي سفرا عبر الأزمنة ، واحسبها امام ناظري كملاية في مأتم ، تتلو على سمعي بجر صوتها المتلون مع كل شطر من قصيدة شعبية حفظتها من والدتها، وجدتي هي الأخرى حفظتها من بنت عمتها كظوم بنت صالح القديحي الضريرة، امرأة ذات حافظة عجيبة، بل كنز تراثي ثري ،
وعنها تقول والدتي قصيدة بعنوان “شلع القمر” بقي جزء يسير في ذاكرتها من تلك الأبيات الشعبية الموغلة في القدم :
“شلع القمر شدوا على الميمون ، غابوا عن منازلهم متى يلفون ، حبيب المصطفى قد حمل اعياله ، طلع بنچ شلع القمر على الميمون ، طلع يطوي الفيافي طايع ربه ، الحين وصل كربلاء ووقف الميمون ، قال : ياأصحابي خبروني عن هالأرض ويش تسمى ، قالوا تسمى كربلاء،
ياأصحابي خبروني عن هالأرض ويش تسمى ، قالوا هذه تسمى نينوى ، ويش تسمى يا اصحابي هالارض ، قالوا تسمى الغادرية ، ياسبط انزلوا وانصبوا خيمات المنية ، على ياخيرة النسوان قومي وافهمي مني هذه الوصية، بيحز رأسي شمر الظباء ، وبيجعل جسمي على الرمضاء رمية ” .
هي الٱهات والزفرات
تنتقل جيلا بعد جيل ، تتشكل وتتجدد في الذاكرة الجمعية بروح كربلاء النابضة عبر الأزمنة كشعلة وقادة لأينطفئ اوارها ابدا .