بين يديّ حوالي سبعة وستون نصًا سرديًا بعضها من القصص القصيرة، وأكثرها من القصص القصيرة جدًا، وما يهمنا هنا هو قراءة بعض أهم عناصر الدهشة الشعرية في النص السردي الذي يمثل بين أيدينا، وأقول الدهشة الشعرية قاصدًا ذلك، لأن الشعر بصفته المجردة عن الميزان العروضي الخليلي وغير الخليلي هو شعر بحدّ ذاته يمتلك كل مقومات الشاعرية والتحليق في عوالم الوجدان والإحساس الإنساني الخلاّق، وهذا ما نجده في الرواية والقصة والمسرحية، بل ونجده في الفيلم السينمائي وكل أنواع الدراما سواء على الشاشة التلفزيونية أو على خشبة المسرح، أو حتى خلف ميكرفون الإذاعة، فالشعر يدخل في كل الفنون حتى في الفن التشكيلي من رسم ونحت وما إلى ذلك، لأنه بمثابة اللغة العالمية التي تفهمها كل الأذواق البشرية في قراءة النص المكتوب أو النص المرسوم أو المُؤدّى فنيًا أداءً منفردًا أو غيره.
وجمال الناصر ذلك الإعلامي والقاص والناقد الأدبي صاحب القلم السيّال في كثرة ما يقرأ من جهة، وفي كثرة ما يكتب من جهة أخرى، فهو قارئ وكاتب في آن واحد، ولا يكون الكاتب المبدع مبدعًا إلا إذا كان كذلك، وقد لفت نظري سرده الجميل الذي يستحق أن أسلط عليه الضوء وأن يكون بين دفتين من إصدارات منتدى سيهات الأدبي “عرش البيان” ليس من ضمن سلسلة الدواوين الشعرية، وإنما بصفة منفردة كمنتج في عالم السرد القصصي بنوعيه القصة القصيرة، والقصة القصيرة جدًا، وها هو هذا الإصدار “تيه اللغة” بارز بين يدي المتلقين، وإني من خلال هذه القراءة المُبسطة والتي تسلط عليه الضوء سأركّز على بعض عناصر الدهشة في لغته الشاعرية عبر هذه النقاط:
(1) الشاعرية على مستوى بلاغة الجملة
الشاعرية على مستوى بلاغة الجملة، صفة لابد من توفّرها في كلّ نصٍّ أدبي، فالنص الأدبي شعرًا كان أو نثرًا، قصة كان أم رواية أم مسرحية، لا يكون نصًا أدبيًا إلا بهذا المُقوّم الرئيس، ألا وهو شعرية الجملة لا تقريريتها، وهذا اللون من البلاغيات البسيطة على مستوى الجملة أراه متناثرًا في معظم نصوص هذه المجموعة، فهو يقول في نص (ارتعاش الروح بسكناها):
“ابتسامته تشرق في محيّاه”
“السنون تبحر في ذاته اشتعالات أمل طموح”
“يهفو شوقًا لأداء فريضة الحج، مسرعةً خطاه في احتضان ذوبان الروح في القداسة”.
وأمثال هذه الجمل المدهشة على مستوى التعبير الجزئي في تكوينها من مجموعة من الكلمات والحروف، وهذا ما يقوّم النص الأدبي على مستوى المقطع الواحد أو ما يطلق عليه في الشعر بـ (الدور)، وأقصد بالمقطع السردي هنا على اعتبار أن النص المقروء هنا هو نص سردي من جنس القصة القصيرة.
(2) الشاعرية على مستوى التوصيف الحركي
في ذات النص (ارتعاش الروح بسكناها) يمكننا أن نطرح مثالًا الشاعرية على مستوى التوصيف الحركي، وهو من قبيل المستوى الثاني للتعبير السردي الناجح، فهو في النوع الأول حقق الشاعرية على مستوى بلاغة الجملة، أما في هذا المستوى فقد حقق الشاعرية على مستوى التوصيف الحركي، وهو ما يُميّز النص الروائي والقصصي على اعتبار وجود الأبطال الذين يتحركون في العالم والوجود بمستواه الذي أشار إليه القاص والسارد ضمن نصه، ولنقرأ هذا المثال:
“وقف مودّعًا أخاه، وعيناه تحدّقان ولا تحدّقان، كأنَّها تبصر بحثًا عن غيمة زرقاء في عمق سماء الصحراء، يتأمل قطرات المطر، تتساقط بين يديه، لا مطر سوى لظى المسافات، ألهبة الاشتياق، يقضي وقتًا طويلًا أمام شاشة (التلفاز)، يتناغم مع الحجاج في مشاعرهم، طوافهم حول البيت العتيق، خطواته امتزاج خطواتهم في السعي بين الصفا والمروة، يلبي مع تلبياتهم، يجري دموعه عبر دمعاتهم في (عرفات)، يرخي جبينه إلى جانب جبينهم في (منى)”.
سيلاحظ القارئ المتلقي للنص لجوء القاص/ السارد إلى جُمَل فيها ما فيها من الإشارة إلى الحركة، كقوله: (وقف مودعًا)، (وعيناه تحدّقان)، ( يتأمّل قطرات المطر) إلخ إلخ.. كما سيلاحظ القارئ مستويين من التوصيف الحركي وهما: التوصيف الحركي للحالة الواقعية، والتوصيف الحركي للحالة المجازية، فهو عندما يقول: “ألهبه الاشتياق” هو هنا يصف حالة حركية داخلية واقعية، بينما عندما يقول: “كأنها تبصر بحثًا عن غيمة زرقاء في عمق الصحراء”، هنا يتحدث عن حالة حركية مجازية بدأها بحرف (كأنّها).
أما تحقق الشاعرية هنا فيتحقق في إتقان الدمج السردي بين ما هو واقع، وما هو خيال، مما يترك للقارئ المتلقي الكثير من المساحات التي تتراوح بين التصورات والتصديقات على مستوى الجملة والمقطع المكون من عدة جمل، وكذلك الصورة البيانية التي يرسمها سرديًا لبطل القصة ككيان واقعي، ووجدانه الداخلي كمحتوى حقيقي للنص السردي، فيه ما فيه من التأمل والطموح المشروع.
(3) الشاعرية على مستوى هَيَمَانِ الرّاوي
في النص (ورحلت إليك) يلجأ القاص /السارد إلى أسلوب إنطاق الراوي بطريقة شاعرية مُلفتة، فهو في هذا النص جعل من الراوي بطلًا يوجّه له كلّ دلالات الحديث الناطق على لسانه، ليس لما يدور في ذاته وأناه هو، وإنما لما يدور من توصيفات جميلة يُطلقها على بطلةٍ يتحدث عنها، وهذا أسلوب مزدوج في إبراز بطولة الراوي من جهة، وبطولة المُتحدّث عنها من جهة أخرى، إلا أن هيَمان الراوي هنا كان بأسلوب شاعري يستحق أن يتوقف عنده القارئ، بل يستحق أن يتوقف عنده الناقد الجمالي، حيث يقول:
“كانت، هي كألوان قوس قزح، تضفي على الحياة جمالًا لا ينتمي للواقع، تصرّفاتها مثار جدل الآخرين، أنيقة الظل، سيمفونية العذاب، صقلتها الحياة لتكون كالندى يسكب الأنفس شيئًا من الجمال.
لا أخفي عليكم فلا بدّ للحقيقة أن تشرق رغم الضبابية المكتنزة فينا، دائمًا عميقة التفكير، مرآة صافية ذات رؤية حضارية، أنا كنت أتأملها بين الفينة والأخرى، لأرى فيها أنثى أخلصت علاقتها مع تاء التأنيث العربية، أحببت غداة العشق ارتشاف فنجان قهوة من يديها، لتنساب أحرفي بحور جمال”.
يُلاحظ في هذا المقطع من النص قيام القاص /السارد بالتوصيف الحيادي، إنه يتحدث عن جميلةٍ ما، ولا يشترط أن تكون هذه الجميلة لها علاقة به، إنه يتحدث عنها كراوٍ حيادي، ربما يكون من عالم آخر –إن صح التعبير-، لأنه غير موجود في زمان هذه الجميلة ولا في مكانها، إنما هو خادمٌ من خدمة النص السردي يبوح به للقارئ المتلقي، وهذه الحالة تكثر عند الكثير من كُتّاب الرواية والقصة، فالراوي قد يكون أحد أبطال النص، وقد يكون من خارج النص، وقد يكون هو الكاتب الحقيقي للنص، وقد يكون الراوي لا شخصية له، فلا هو في عالم الوجود الذي منه عالم النص ولا هو في عالمٍ آخر حتى، والدلالات اللغوية بجميع مستوياتها قد تدل على أي حالة من هذه الحالات، ومثالنا هو ينطبق عليه أن الراوي يستخدم أسلوب التوصيف لهذه الجميلة وهي في غرفتها دون أي تدخل منه في أي جزئية من جزئيات هذا العالم الناعم لهذه المرأة الجميلة، من هنا تنبعث إشارات الصورة الشعرية السردية التي تحلق بالمتلقي والقارئ في أحاسيس مفعمة بالمشاعر والجمال والنعومة.
(4) الشاعرية على مستوى العنصر الإيماني
في النص (احتواء) يمكننا الالتفات إلى الشاعرية على مستوى العنصر الإيماني، وهذا العنصر من العناصر التي تركّز عليها دراسات الالتزام في الأدب بشكل عام، وهو يتناسب تمامًا مع مجتمعنا المسلم، حيث لا يمكننا أن نفصل الإيمان والجوانب العقائدية لدى مختلف طبقات مجتمعاتنا رجالاً ونساءً كبارًا وصغارًا، فحالة كوننا من المسلمين في هذه الأرض بشكل عام، وفي هذا الوطن بشكل خاص يستدعي أن ينعكس ذلك في نصوصنا الأدبية، وإني أتعجب من بعض كتّاب الأدب هروب أقلامهم من التعبير عن هذه الحالات وهي كثيرة على مستوى العبادات كالصلاة والصوم والحج والعمرة وقراءة القرآن والدعاء وما إلى ذلك، وهنا في هذا النص (احتواء) نلاحظ توصيف القاص/السارد لحالة قراءة آيات من القرآن الكريم لأحد أبطال القصة، وكذلك حالة اللجوء إلى الدعاء، وقد وفّق القاص /السادر أيما توفيق في إضفاء الشاعرية المُدهشة على هذا التوصيف الدقيق والنتيجة التي وصلت إليها الحالة.
(5) الشاعرية على مستوى الفعل “المضارع”
في القصة القصيرة جدًا (كفن) نلاحظ لجوء القاص /السارد إلى جمالية الفعل المضارع في إضفاء عنصر الدهشة الشاعرية في تكوين جسد هذا النص القصير، فهو يلفتنا بالأفعال الماضية إلى صورة بيانية تختزن من الشاعرية ما تختزن.
“ذات غفلة من الوقت كفّنته الجراحات، كرداء يمتطي من خلاله أحزانه بالآهات، يمشط وجه الحقيقة، يقبّلها مصافحًا جبينها، ووجنتيها الحمراوين، كخجل الحقيقة، محض وهم، يراقص خصر الطين”.
حيث تبرز هذه الأفعال: (يمتطي – يمشّط – يقبّلها – يراقص)، في سطور النص مُشكّلة من خلال الجمل الجزئية، والجمل الكلية صورةً بيانية متماسكة في لغتها التعبيرية، ومُشكلة صورة شعرية نثرية تأخذ القارئ من زمنٍ ماضٍ إلى زمنٍ حاضر، وزمن مستقبلي، كما يُراوح بين الحقيقة والخيال في حالة مُترددة بين تاء التأنيث الحقيقية، والطين.
وهكذا تتعدد صور الدهشة التعبيرية على المستوى الشاعري في نصوص جمال الناصر، ويمكننا أن نشير إلى عناصر أخرى كشاعرية انعدام الزمن المتمثل في نص (الزهرة الذابلة)، وشاعرية المُقرَّر واللامتوقع كما في نص (الولد النحس)، وشاعرية التداخل الوجودي بين كينونة الأم وكينونة الغيمة كما في نص (غيمة).
وفي ختام هذه القراءة المقتضبة يمكنني أن أقول: “إن هذا المنهج في استنطاق نصوص جمال الناصر السردية بطريقة استخلاص مقاطع الشاعرية لهو منهج ممتع وجميل في فهم الأسلوب التصويري السردي لديه، وهذه المحاولة وجدتها ممكنة، وغير مستحيلة، وإني أدعو كلّ من يقرأ نصوصه بتجربة هذا المنهج وهذا الأسلوب القرائي.