حقوق النفس..
حقُّ اللِّسَان..
في هذه الخاطرة سنتحدث عن آلة منحها الله -سبحانه وتعالى- الإنسان، فلو لم تكن فيه لكان صورة ممثلة أو بهيمة مهملة، وهذه الآلة هي اللِّسَان.
روي عن أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب (ع) أنه قال: “ما الإنسان لولا اللِّسان إلا صورة ممثلة، أو بهيمة مهملة” [غرر الحكم: 9644].
اللِّسَانُ: جسم لحميّ مستطيل متحرك يكون في الفم ويصلح للتّذوُّق والبلع والنطق. [مذكر وقد يؤنث]. والجمع: ألسنة وألسُنٌ ولُسُنٌ. [المعجم الوسيط].
وفي مادة لسن: “اللِّسانُ”: جارحة الكلام وقد يُكْنَى بها عن الكلمة فيؤنث، حينئذ قال أَعشى باهلة: إِنِّي أَتَتْني لسانٌ لا أُسَرُّ بها من عَلْوَ ، لا عَجَبٌ منها ولا سَخَر؟ [معجم لسان العرب].
أولت الشريعة الإسلامية اهتماما بالغا بالإنسان من جهة تنظيم حياته ليصل إلى مراتب الكمال، فأعطت لكل جنبة نظامًا يسير من خلاله ليصل إلى طريق النجاة، ومع ذلك تعرضت أيضًا إلى ما لا ينبغي السير نحوه حتى لا يقع منه خلاف هذا النظام وما ذلك إلا رحمة به.
فعندما خلق الله هذا الإنسان الذي يتكون من جسد وروح، جعل لكل منهما نظاما وحقوقا، كذلك الجسد لأنه يتكون من جوارح فجعل لكل جارحة نظاما وحقوقا.
اللِّسان ما يرتقي به الإنسان إلى النيل الأعظم وهو الفوز بالجنة، ومع ذلك أيضا به ينزل إلى ما لا ينبغي وهو الهاوية، حيث الملاحظ هناك ممن لا يعتقدون ولا يؤمنون بأن الكلام هو جزء من أعمالهم بل يعتقدون اعتقادًا تامًا بأن لهم مطلق الحرية في الكلام في كل شيء وإن كان باطلًا مع فساد ذلك الاعتقاد بالضرورة.
رويَ عن رَسُولُ اَللَّهِ ﷺ أنه قال:” يَا أَبَا ذَرٍّ: مَنْ ضَمِنَ لِي مَا بَيْنَ لَحْيَيْهِ وَ مَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ ضَمِنْتُ لَهُ اَلْجَنَّةَ
قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا لَنُؤْخَذُ بِمَا تَنْطِقُ بِهِ أَلْسِنَتُنَا قَالَ: يَا أَبَا ذَرٍّ، وَ هَلْ يَكُبُّ النَّاسَ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ فِي النَّارِ إِلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ، إِنَّكَ لَا تَزَالُ سَالِمًا مَا سَكَتَّ، فَإِذَا تَكَلَّمْتَ كُتِبَ لَكَ أَوْ عَلَيْكَ.
يَا أَبَا ذَرٍّ، إِنَّ الرَّجُلَ يَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ (جَلَّ ثَنَاؤُهُ) فَيُكْتَبُ لَهُ بِهَا رِضْوَانُهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ فِي الْمَجْلِسِ لِيُضْحِكَهُمْ بِهَا فَيَهْوِي فِي جَهَنَّمَ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَ الْأَرْضِ.
يَا أَبَا ذَرٍّ، وَيْلٌ لِلَّذِي يُحَدِّثُ فَيَكْذِبُ لِيُضْحِكَ الْقَوْمَ، وَيْلٌ لَهُ، وَيْلٌ لَهُ، وَيْلٌ لَهُ.
يَا أَبَا ذَرٍّ، مَنْ صَمَتَ نَجَا، فَعَلَيْكَ بِالصِّدْقِ، وَلَا تُخْرِجَنَّ مِنْ فِيكَ كَذِبَةً أَبَدًا”
وهناك من يفتخرون بحسن كلامهم وهذه كذلك من الصفات المذومة لسلبيتها؛ لأنها تجعل الإنسان يظن أنه أفضل ممن يتحدث إليهم فيجرّه هذا الأمر إلى الجهل بل إلى الجهل المركب.
قال لقمان الحكيم لابنه: “يا بني إذا افتخر الناس بحسن كلامهم، فافتخر أنت بحسن صمتك”.
ينبغي للإنسان أن يعرف أن اللسان هو ترجمان الفكر وما في داخل النفس؛ لما يظهره من الخصال فتهذيب لسانك -أيها الإنسان- هو ترجمة لحسن فكرك وأخلاقك.
روي عن أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب (ع) أنه قال: “إن في الإنسان عشر خصال يظهرها لسانه؛ شاهد يخبر عن الضمير، وحاكم يفصل بين الخطاب، وناطق يرد به الجواب، وشافع يدرك به الحاجة، وواصف يعرف به الأشياء، وأمير يأمر بالحسن، وواعظ ينهى عن القبيح، ومعز تسكن به الأحزان، وحاضر تجلى به الضغائن، ومونق تلتذ به الأسماع”. [الكافي: 4 / 20 / 8].
في هذه الخاطرة نستنطق نصًا من النصوص التي وردت حول حق اللِّسان.
روي عن الإمام زين العابدين (ع) أنه قال: “حَقُّ اللِّسانِ إكرامُهُ عَنِ الخَنا، وتَعويدُهُ الخَيرَ، وتَركُ الفُضولِ التي لا فائدَةَ لَها، والبِرُّ بالنّاسِ، وحُسنُ القَولِ فيهِم”. [البحار : 71 / 286 / 41].
في هذه الرواية الشريفة المباركة نرى أن الإمام صلوات الله عليه قد بين لنا حقوقا كلها مختصة بما ينبغي للإنسان أن يستوفيها:
أولا:
أن يكرِّم الإنسان لسانه عن الخنا وهو الفحش في الكلام حيث أراد الله سبحانه وتعالى له أن يكون مهذبًا في كلامه مختارا لكلماته متفكرا فيها قبل أن يتلفظ بها؛ فقد وردت النصوص القرآنية والروائية عن الرسول الأعظم وأهل بيته (ع) المتظافرة في هذا المعنى الناهية عن الفحش في القول وأن العقوبة على مرتكب الفحش بل وجعل الرقيب العتيد على ذلك.
قال سبحانه وتعالى: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ}.
الآية الكريمة المباركة تؤكد لنا على أن كل ما يتلفظه الإنسان مسجل ومكتوب في كتاب وأن هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة.
قال تعالى: {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا}.
نلاحظ أن القرآن الكريم يؤدب هذا الإنسان بتذكيره وتعليمه وأن كل ما يتلفظه من ألفاظ سواء كانت الألفاظ واجبة أو محرمة أو مستحبة أو مكروهة أو مباحة فكلها مسجلة محفوظة في ذلك الكتاب.
ثانيا:
تعويد اللسان على الخير وهو أن يشغل الإنسان لسانه دائمًا بذكر الله -جلّ وعلا- من تسبيح وتحميد وتمجيد وأن يُعوّده على الخير من إصلاح ذات البين والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وألا يخرج منه إلا الكلم الطيب قال تعالى: {مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ}.
المراد من الكلم الطيب هو كلمة التوحيد ومطلق ما يعبِّر عن الاعتقادات الصحيحة الحقة ومن الواضح أنَّ الاعتقاد والإيمان الصحيح يوجب بنفسه القرب لله تعالى.
ثالثا:
“تَركُ الفُضولِ” التي لا فائدَةَ لَها وهو فضول القول الذي لا يرجع على صاحبه بالخير مطلقا بل لعله يعود عليه بالضرر حيث لا يكب الناس في النار على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم.
رابعا:
“البِرُّ بالنّاسِ”
للبر آثار عظيمة كما أن فيه مكسبة لحب الله سبحانه وتعالى فهو مكسبة لحب الناس وودهم كذلك وأسهل البر وأبسطه هو الملاطفة مع الناس وطيب الكلام معهم وقد ورد الحث عليه في النصوص القرآنية والروائية.
قال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ}.
روي عن الإمام الصادق (ع) أنه قال: “من صالح الأعمال البر بالإخوان، والسعي في حوائجهم”.
روي عن الإمام الصادق (ع) أنه قال: “تواصلوا، وتباروا، وتراحموا، وتعاطفوا”.
وأما معاني البر فهي كثيرة كالإحسان والاتساع فيه ومن أجلى مصاديقه هو الإحسان إلى الوالدين قال تعالى: { وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوٓاْ إِلَّآ إِيَّاهُ وَبِٱلْوَٰلِدَيْنِ إِحْسَٰنًا ۚ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ ٱلْكِبَرَ أَحَدُهُمَآ أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّۢ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا}.
بل في الآية الشريفة المباركة أمر بالإحسان للوالدين وقرن الله عبادته بالإحسان للوالدين ومنها تقوى الله والسعي في حوائج الإخوان والناس والتواصل والتراحم و التعاطف والتآخي وغير ذلك فهذا كله من معاني البر.
وهنا أمر لا بد من الإشارة إليه وهو: كما هو مطلوب من الإنسان في تعامله مع الناس أن يبر بهم ويحسن إليهم بدون مَنٍّ فالمطلوب من كل إنسان كذلك ألا يجحد ذلك البر لأن في جحده إساءة تصرف غير مرض عند كل إنسان يحمل الخلق الرفيع السامي حيث هذا الفعل ليس من الأخلاق في شيء.
روي عن أمير المؤمنين الإمام علي (ع) أنه قال: “جحود الإحسان يحدو على قبح الامتنان”.
روي عن أمير المؤمنين الإمام علي (ع) أنه قال: “تمام الإحسان ترك المن به”.
رابعا:
“وحُسنُ القَولِ فيهِم”
عندما يستقرئ المرء الأحداث والمشكلات الاجتماعية في شتى المجتمعات الإسلامية وغيرها وعندما ينظر إلى ما يعكر صفوها يعلم أن المنشئ لها غالبا هو بوادر اللسان وتبادل المهاترات أو حتى المزاح المذموم الذي يبعث على توتر العلاقات الاجتماعية ويثير الأحقاد والضغائن بين أفراد المجتمعات، من هنا يبدأ صون اللسان عن الزلل وتعويده على القول الحسن والحديث المهذب النبيل السامي الذي هو ضرورة يفرضها أدب الكلام وما تقتضيه المصلحة الفردية والمجتمعية معا.
لذلك أولت الشريعة الإسلامية اهتماما بالغا بالحث على حسن المقال ونبذت قبحه لأن حسن المقال من سمات الكمال حيث ركزت على هذا الأمر لما فيه من تعزيز أواصر المجتمع.
قال تعالى اسمه: {وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوًّا مُّبِينًا}.
قال تعالى اسمه: {وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْنًا}.
قال تعالى اسمه: { وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ}.
اللهم اجعلنا من: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ۚ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ}.