تكتسب العلامات والرموز قوة تأثيرية كبيرة من سلوكيات الناس، وطريقة حياتهم، حتى أنها تستطيع الانتقال الفجائي بهم من حال الفرح إلى حال الحزن، أو العكس، فمن أين اكتسبت هذه القوة؟ وكيف حصلت عليها؟ وما سبب استمراريتها عبر مختلف الأزمنة؟ ولماذا يصعب الفكاك منها؟.
الكثير من الأسئلة تتوالد حين مقاربة العلامات والرموز؛ إذ هي بطبيعتها مُنتِجةٌ للأسئلة؛ بسبب ما تحويه من أسرار، وما تفرزه من نتائج؛ تؤثر في حياة الفرد والمجتمع، فتجعلهما في حال مختلف عن السابق، وكأنَّه لا علاقة بين السابق واللاحق، بالرغم من أن الأفعال والأقوال تصدر عنهما في أزمنة متقاربة، بل متطابقة أحيانًا، فمن أين استمدَّت قوة تأثيرها؟.
قوة التأثير تأتي من العادات والتقاليد؛ التي اعتاد الناس القيام بها كلما حلَّ وقت العلامة، أو الطقس، حيث هذه العادات والتقاليد من الصعب استبدالها، أو التخلي عنها، إلا بصعوبة شديدة؛ لأن قوانين المجتمعات ترفض الاستبدال، والتخلي، ومن يغامر بالتوقف عن أدائها، فإنما يغامر بمكانته الاجتماعية التي اكتسبها.
العادات والتقاليد؛ أهم أسباب رسوخ العلامات والرموز في الأذهان، فلا يستطيع الفرد تجاوزها، أو الاعتداء عليها، أو إبداء الاعتراض تجاهها، وإلا عُدَّ مارقًا، خارجًا عن الجماعة، عليه من اللعنات ما يستحق، وأكثر، فإن كانت متجاوزة للعرف الاجتماعي، ومتصلة بالدين، فالعقوبة تزداد، لتصل حدَّ الطرد من ملك الله، والإبعاد عن جنَّته.
طقوس الموتى في كل المجتمعات ينبغي احترامها، والاعتناء بها؛ يعني الاعتناء بالميت، وتجهيزه لعبور العالم الدنيوي إلى العالم الأُخروي، كما في مصر الفرعونية، التي أعدَّت للموتى المواكبَ والتجهيزات، وكذلك فعل الإغريق؛ حيث الانتقال بعد الموت إلى النعيم الدائم يتطلب تقديم أُضحيات إلى الآلهة، الأمر أيضًا ينطبق على موتى المسلمين؛ الذين تُقام لهم طقوس خاصة لتسهيل انتقالهم من الحياة الدنيا إلى الحياة الأُخرى.
العادات والتقاليد؛ تلعب دورًا مؤثرًا في المحافظة على العلامات والرموز، فطقوس الموتى؛ علامات لانتقال الفرد، من الحياة الفانية إلى الحياة الباقية، لهذا يتزود الموتى، أو يتمُّ تزويدهم بما يساعدهم؛ لتجاوز العقبات التي تعترضهم، والمساعدة هنا تأتي على شكل أذكار وأدعية وتلاوات قرآنية، تُرافقهم حتَّى القبر، وبعدها يُتركون لمصيرهم، وعملهم.
السمة الأولى التي تصبغ العلامات والرموز بصبغتها، وتعطيها حياتها داخل المجتمع والثقافة؛ تتمثل في “التكرار”، فمن خلالها تتحول الأفعال والأقوال إلى عادات راسخة في صميم الأعراف الاجتماعية، حتَّى يُعدُّ تركُها إثمًا، والابتعاد عنها أشبهَ بالجريمة، لهذا يمكنُ رؤيةُ أشخاص يسارعون إلى القيام بها بمجرد حلول وقتها؛ لأنها تمتلك من قوة التأثير، ما لا يمكن صدُّه، أو الوقوف ضدُّه.
في الحج يعمل التكرار على ترسيخ العلامة الدينية، محوِّلًا إياها من إطارها الخاص إلى إطارها الاجتماعي الثقافي العام، فالتلبية “لبيك اللهم لبيك” تصبح حاملة لمدلولات الوحدة والانتماء والهوية المشتركة، وليس فقط إشارة على الاستعداد للطواف وأداء المناسك، مما يؤثر على الرمز ويحوِّل معناه كذلك، فهكذا لن تغدو الكعبة المشرفة مجرَّد رمز دينيٍّ (بيت الله)، وإنما ستصبح رمزاً ثقافيًّا مهمًا، يستدعي مختلف المعاني الدالة على الوحدة والتضامن والاشتراك.
الانتقال من الخاص إلى العام؛ هو ما يُعطي العلامات والرموز حياتها داخل المجتمعات؛ حيث يترسَّخ في أعماق عاداتها وتقاليدها، ليصبح ذا أهمية قُصوى، لا يمكن الاستغناء عنها، مهما حدث، أمَّا تركُها؛ فسيُخلِّف فراغًا، لا تستطيع علامة أخرى ملأَه، مهما حاولت.
السمة الثانية التي تهب العلامات والرموز حياتها وبقاءها داخل المجتمعات والثقافات؛ تتمثل في “الدعوة” إليها، فالأفراد لا يكتفون بتكرار التلبية، بل يدعون الآخرين إلى مشاركتهم تكرارها، إمَّا بشكل مضمر أو ظاهر، فالمضمرُ: عبر ما يُعرف بـ”العدوى الجماعية”؛ حيث رؤية أفراد يقومون بعمل ما، تدفع آخرين إلى القيام بنفس العمل، والظاهر: عبر الدعوة المباشرة إليها، وذلك بالطلب من الآخرين القيام بأداء التلبية، وتكرارها.
المشاركة في التلبية بشكليها المضمر والظاهر؛ تعني الدعوة إليها، وهو ما سيقود إلى تكريسها كسمة من سمات الثقافة، وعلامة من علاماتها البارزة، مثلما أن تكرارها، سيسهم في تثبيتها وترسيخها داخل الأذهان.
سِمتا “التكرار والدعوة”؛ تعملان على تحويل العلامات والرموز، من إطارهما الخاص إلى إطارهما الثقافي العام، فتكتسبان بذلك حياة داخل المجتمع، وتستمران معه، سواء أبقي سببُ نشأتهما أم زال! حيث تندمجان مع العادات والتقاليد، التي يصعُب تغييرُها، أو استبدالُها.