لا تنسوا الراحلين

ورد عن الإمام الصادق (ع): “إن الميت ليفرح بالترحم عليه والاستغفار له، كما يفرح الحي بالهدية تهدى إليه” (بحار الأنوار ج 79 ص 62).

الحياة الدنيا ميدان العمل وصنع المعروف وكل ذلك يثبت في صحيفة الأعمال، ومتى ما انتهى أجله أغلق سجله وارتحل معه إلى دار الحساب والمجازاة وهي الدار الآخرة، وهذا ما يهيئ الإنسان إلى الاستعداد ليوم ينتقل فيه من هذه الدنيا ومفارقة حطامها الزائل مهما امتلك منه، ويدعوه إلى اغتنام النعمة الإلهية المتمثلة في عداد العمر فيحافظ على الاستفادة من كل دقيقة منه ليحولها إلى زاد ينفعه يوم لا ينفع مال ولا بنون، وليعلم أنه متى ما فرط في شيء منه فإنه سيصاب بالحسرة والألم النفسي لفوات الحظوظ الكثيرة عليه، فإن العذاب في يوم الحساب لا يتعلق بالعقوبات المتعلقة بالبدن بل يتعداها إلى العذاب النفسي أيضًا، فيوم الحسرة يعتصر الفؤاد ألما لما وقع منه من تقصير في الدنيا وأوقات غفلة تغلبت فيها الشهوات ووساوس الشيطان على عقله، فيظهر له مكانه في درجات الجنة لو لم تصدر منه تلك المخالفات للأوامر الإلهية، كما يتبين له ما ناله المتقون ممن حرصوا على نزاهة أنفسهم عن الرذائل والقبائح، و كفى بذلك واعظا لنا في إعادة حساباتنا وجدولة أوقاتنا لتكون مغنما لا مغرما وأعمالا تقرب من المولى الجليل لا أن تكون مواطن سخطه واستحقاق العقوبات.

الموت يعني انقطاعا عن الحياة الدنيوية وإغلاق صحيفة العمل وطيها استعدادا ليوم الحساب بمراحله المتعددة، وهنا تتجلى نفحة من نفحات الرحمة الإلهية الواسعة بعباده، فيفتح لهم بابا لتعديل ميزان أعمالهم بما يزيد في كفة حسناتهم ويمحو سيئاتهم مع أنهم رحلوا من دنيا الأعمال، ففي عالم القبر هناك هدايا يرفد بها الميت ولا نقصد بها الصدقات الجارية التي تعد استثمارا في الدنيا من خلال الأوقاف كبناء دور العبادة وعقارات يعود ريعها للأيتام وغيرها من موارد سبيل الله تعالى، فهي من استعداد المؤمن ليوم الحساب وإضافات لرصيده الأخروي، و إنما نشير إلى مورد آخر ذكرته الروايات الشريفة ويتعلق بهدايا وصلات الأحياء لأمواتهم، حيث يهدون ثواب أعمال صالحة كتلاوة القرآن الكريم والصدقات ذاكرين أناسا عاشوا معهم ويصلونهم بعد رحيلهم كما كانوا يتعاملون معهم في حياتهم، فمن صفات المؤمن الإحسان إلى الآخرين وتقديم المساعدة لهم وخصوصا في أوقات الشدة والمصاعب، ففي الحياة الدنيوية لو وقع أحد أرحامه أو أصحابه أو عموم الناس وطلب منه مد يد المساندة وإخراجه من المأزق والأزمة التي يمر بها لما تأخر عنه قدر إمكانه، فصنع المعروف والإحسان إلى الآخرين يعبر عن صفاء القلب من أغلال الضغينة والأحقاد ويشير إلى الانعتاق من أسر الأنانية وتضخم الذات والبحث عن المصالح الضيقة فقط.

والرحيل من الدنيا لا يعني انقطاع الصلة فهو ليس أكثر من التقدم نحو عالم الخلود، والميت في حال صعب حيث لا يمكنه أن يقدم لنفسه من عمل إلا ما قدم في دنياه، وها هو يواجه عالم الحقائق وظهور السرائر وانكشاف عالم عمت عنه بصيرته بسبب سكرة الغفلة، و يتمنى في مثل هذا الوقت ألا يصاب من هم حوله بداء الجحود والنكران ونسيانه، فما بعد الموت سفر طويل يحتاج فيه المرء لكل ما يسعفه من زاد الأعمال الصالحة يعوض به تقصيره وخطاياه في الدنيا، ومن كان على الفطرة السليمة لا يمكنه أن ينسى أحبابه ممن رحلوا من الدنيا وهم في أمس الحاجة لأي عمل يغير في موازينه، وهنا يتجلى الكرم الإلهي بفتح باب الصلة للميت ونفاذ ما يثيبونه لأجله وإضافته لصحيفة أعماله دون أن ينقص شيء من ثواب الحي، ومن رحمته تعالى أن جعل للميت شعورا بمن يقدم له صلة خير بما يدخل عليه السرور ممن يمد له يد العون، فلا يستقلن أحد منا أي عمل يقدمه لموتاه فإن قراءة سورة الفاتحة على أرواحهم كالماء العذب يروي ظمأهم، وهذا الوفاء لمن رحلوا يمتد أثره ونتائجه ليتحول إلى سنة حسنة يقوم بها الأجيال المتلاحقة لمن رحلوا عنهم، فمن فعل الخير سخر الله تعالى له من يذكره بعد رحيله ويقدم له صلة تسر روحه، فلنتذكر أن هذه الصلات للموتى لا تعني ثوابا مقدما لهم فقط، بل هي أبواب استغاثة بالرحمة الإلهية تطلب فيها العفو والمغفرة كما كنت تصنع مع الراحلين، وشفاعة المؤمن لإخوانه واردة في الروايات الشريفة ولعل صلتك لبعضهم تكون بابا للتشفع عند الله تعالى لذنوبك والتجاوز عنها.



error: المحتوي محمي