فكر الإنسان بين التذكر والنسيان، بمذاق “الفيزياء الحيوية”

لَعَلَّ فِكر الإنسان النشِط، مَا هُو إِلَّا نِتاج “مِيكانِيكِية” مَلكةِ عَقلِه الشاطِحة المُدبِّرة، التي خَصَّه بِها، ووَهَبه إِيَّاها خَالِقه، ومِدبِّر أَمرِه، عَزَّ مَن وَاهِبٍ، وجَلَّ مَن مُعطٍ، تَكرُّمًا وتَشرِيفًا للإِنسان، الذي هو خَليفةُ اللهِ في الأَرض… ولَعل إِحدَى أَبرَز صَف المَلَكات “الوَصِيفَة” المُتفرِّعَة مِن المَلكة الأُم- الفِكر المُدبَّر- بمشِيئة الله تعالى، هِي مَلكة التَذكُّر، المُدلَّلة في كُنهِ فِردَوس فَلكِها المُنعَّم؛ والمُحتَفَى بها في بَدِيع جَوهَر مَدارِها المُبرمَج، نِعمةً رَبانيةً سَابِغةَ الفَضلِ، وهِبةً عَظِيمةً رَفيعَةَ الشأْنِ، يَكفِيها مِن شَرفِ المَكَانةِ فَخرًا، ومِن عُلوِّ المَنزَلةِ تَعاظُمًا، أَنَّها حَافِظة بَوابة الفِكر، المُلازِمة المُصاحِبة لتَصرِيفِ وتَدبِيرِ صَحِيفة أُمُور الإِنسان المؤمِن الإِلهيةِ العِباديةِ؛ وتَنسِيق جُملة مَسَاعِيه التكَسُّبِية المَعاشِية؛ وتَرتِيب سَائِر وجَارِي عَلاقاتِه الاجتماعية؛ ليَرسِم، بجدٍ واجتهادٍ حَافزين، وَاضَح وصَرِيح حُدود خَارطَة طَريقٍ مُجَدوَلٍ؛ للشُّروع في مُسْتهَل جَادة بَرنامَجِه اليومي الحثِيث؛ ورُبما يُضيف رِدءًا رَافِدًا، في وَسط أوسَع جَنائن بُستان طُموحَاته الحَيوية البِكر…

ولاحِقًا، لِيتذكر حَاجِب العقل الحاذِق النشِط، صَفاء رَيع تلك المَعلومَة المُنتظرَة المُفلترَة أمَام ناظِريه حِينئذٍ، كُلما هَمَّت باعتراضِه وَخمَة غَباشَة مُصادَفةً؛ وأَوشَكَت بتشْتِيت عَزم إِرادتِه عَرَضًا؛ وانتابَتهُ إِثرَها نَوبةَ نِسيانٍ سَقِيمة، تُشعِّّب وتُؤرِّق “بُؤرَة” فِكِره المُتذَبذِب… فَلا غَابَت عَن حَاضر حَواسِّه المُتيقظَة إِشراقة بَازِغة، تَكشِف وتُنِير مُتعَة لَقطاتٍ مَاتِعاتٍ مِن “جَمالِية” حَدائق جَنة بُستانِه الفاخِرة النضِرة، بمَا تَزخَرُ به في مَقام جَعبتِها “الفِردُوسِية” القائمة مِن مُقوماتِ حُقُولٍ أَخَّاذَةٍ، وفُاتناتِ أَزهارٍ خَلَّابَةٍ، التي تُحفِّزُ وتُعزِّز، في حُسنِها وجَمالِها، “فَسْلَجَة” عَمل المُضادات الحَيوية المُسانِدة؛ لتُنبِّه بوَعي “صَفاء ونَقاء” مَجَاس المُستقبِلات الحِسية، لِكامِل مَصفُوفات “فَلاتِر” ومَصافِي مَنظُومَة الشرائح البَصرية الحَادة، بأَبعادِها البصرِية الثلاثِية؛ وبتَمام وكَمال أَطيافِ أَلوانِها الشاخِصة البَراقَة، استعدادًا وتَجَهُزًا ذاتِيين، قَبل إِصدَارِ قَرارِ الحِفظ المُرتَّب؛ وإِيرَاد رَغبَةِ الاحتِفاظ المُبرمَج، بأَصلِ نقاوَةِ كِيمياء كَبسُولَة الشرِيحة المُحّمَّضة عِنايةً… ولاحِقًا، تَتم عَملية إِذكَاء التذكر الذِّهني؛ وتُستَكمَل مُهمة إِيقاد خَلايا التفَتُّح الفِكري السلِستين، بإِعادَة واسترجَاع وَمِيض، وخَطف حُزم البُؤر الضَوئية، مِن وَسط مُجمَّعِ نَسقٍ مِن عَدسَات مُتعاضِدةٍ، عَاليةِ النقاوَة… وانتقَائها مِن مَخزُون أَحضَان مُستودَع أَرشِيف تلك الصوَر المَصُونة المَخزُونة؛ ورُبما بَثهَا طَواعِيةً بأْسلُوبٍ أسرَع خَطفٍ، وأَدَّق نَزعٍ، وأَعجَل استحضارٍ مِن نَمطِ استِمرارية البثِّ الإلكتروني الرقَمي المُباشر، بتَقنِيةِ أَحدَثِ شَاشَات العَرض، وأَجدِّ وسَائل البَّث المُبتكَرة المُطوَّرة!

ولَعَلَّه مِن الغَرَيبِ والمُثِيرِ في فُصُولِ وفُضُولِ مَلكة التذكر الرصِينة الفطِنة، تعامُلها النشِط مَع تَذكُر واستِرجاع نَسقٍ مَحفوظٍ، ونَمطِ مُتجانسٍ مِن لَقطات الأَحدَاث البعِيدة والقَرِيبة، حَيث مِن المُلاحَظ تَذكُّر مِلء سِلَال رُكام الأَحداث الماضِية الحُبلى، بكامِل تفاصِيلِها الدقِيقة، خَاصة تلك المَواقِف المُثِيرة، التي حَدثَت سَابقُا، بمَعِية انطِلاقةِ رُفقةِ الطفُولة البَريئة؛ وتزامَنت رَدَحًا، مَع زَهوِ عِشرَةِ الصِّبَا الشمُوس؛ وتَداخَلت طَويلًا مَع عُنفوَانِ الفُتوةِ الجَمُوح… لِسبب “فِسيولوجيٍ” بَحتٍ، حَيث إٍنَّ “فَبركة” نَفرة مَسِيرة تلك الأَحداث برِمَّتها، قد نَالَت وهَنَأَت بحَفناتٍ كَافِيةٍ مِن نَاعمِ أَذِرَّةٍ، ودَقِيق مَساحِيق، وإِفرَازات أَنزيمات خَمائر فَعَّالة، تَجعل قَوَام عَجينة تلك الأَحدَاث المَخزُونة البعِيدة تَامة التخْمِير والتحْضِير؛ لتَستجِيب طَواعِية بتَوقِ تَذكرِها؛ وتُلبِّي شَوقِ استِدعَائها، إِلى أَسمَى لَذَّة لَمسات رَقيقة مُستَعجَلة؛ لاستِدعَاء وجَذب، جَاهِزية حُضُور مَضمُون ومَكنُون أَنضَر قَوالبِها المُنضدَة المَصفُوفة؛ واسترجَاع مَسطُورِ ومَخطوطِ مُحتَوى بِيضِ صَحَائفِها المُبوبَة، في نَسقِ أَحدثِ أبجديةٍ مَعلوماتيةٍ مُفهرَسَةٍ، على غِرار نَسق تَرتِيب البَحث اللغَوي المُعجَمي المُبوَّب الشامِل… وعلى عَكس نَسق تلك الميكانيكية السلسة في استعَادة وتذكُر شَرِيحة الحَدث الفَائت، التي تمَّت واكتَملَت عَملية صُدُورِها قبل لَحظة، لتَنشِب حَدِيدة “جَامِعَة” في عَضُدِ عَتمَة النسيان البَلهاء، كالغُصة الناشِبة في البُلعوم، ولَم تَنل حَظَها التام مِن فَذلكَة اكتمال “كِيميائية” التخمير الذاتي الفعَّال، كَما تمَّ في المَراحِل المُتقدمَة، في سَنوات العُمر المُبكرَة… تلك اللحظَات والحَالات الفَورِية مِن إِيْصَاد غَلبة النسيان السرِيع، ومُثول صُعوبة التذكر اللاحِقة، تَتَّحِدان مَعًا، بصُورةٍ واضَحِةٍ جَليةٍ، لتُرَى مُتجَليةً في فَترة سِن الشيخُوخة… ولَعل جَوهَر السبَب الرئيس، يَعود إَلى خَللٍ وَظِيفي في بَعضِ خَلايا الدمَاغ، وضَعفٍ عَام مُماثِلٍ في شَبكة الجِهاز العَصبِي!

وعَودًا حَميدًا إِلى مُقتَضَى صَفحَة مُلابَسَات النسيان المُتردِية، ومَا تَحوِيه لُحمَتها الجامِعة، جُملة وتَفصيلًا، مِن “نِعمَةٍ ونَقمَة” تَستحَقان الذِّكر والإشَادَة، كُلما، انحَسرَت مُرُور وحُضُور رَشَاقة و”فَظاظة” المَعلومَة المَطلوبَة المُستهدَفة، عَبر شَبكة مَجاس الأَعصَاب الناقِلة المُرسِلة؛ نَتيجَة حُدُوث هَجمَة خَللٍ فِسيُولوجِي طَارئ، أَو حُصُول نَوبَةِ عُطلٍ بَيُولوجِي مُؤقت، تَسببتَا تِباعًا، في نِسيان وحَجب إِضَاءة مُفرداتِ تلك المَعلومة المُتزَحلَقة، على أعقَابِها، كمًا وكيفًا، في رَابِعة أْفُق الذاكِرة الفَورِية الحَاضِرة… وعَادة مَا يَتم استدعاؤها لاحقًا، بَعد أن تَستفحِل، وتَستكمِل، وتتحَلَّل أَنزِيمَات خَميرة “البَكتِيريا” ذّرُورَها، وتَبلُغ ذُروَةُ مَهامِ نَاتجِ نَشاطِها “الكِيمُوحَيوية” الجاهِزة؛ لِتنطَلق مُهروِلةً مُنتصِرةً بمَفازَة الاسترجَاع الكامِل، بعد أَنْ استيقظِها برِفق، نيرُوز غَسَقِ دُجَاها، المُنتشِي توًا، مِن قَدِيم سُباته الطويل، إِلى وَضحِ ضَاحِيه صَحوَتِة النابِضَة المُجَلْجِلة…!

هَذا. وعند وَضِع قَوام كُتلة كِلتي الحالتين السابغَتين: التذكر والنسيان، مُنفردَتين، في كَفتي مِيزان، في وَزنتَي صَفحةِ مِيزانٍ رَقمي، لا ضَيْرَ، ولا ضَرَر أنْ ترجَح كَفة التذكُر الوافِية الضافِية، لِمَا لِمقامِها العظيم مِن سَابِغ نِعَم، لا تُعد ولا تُحصَى، في أَمتع رِحلة قِطار سِيرة ومَسيرة الحَياة المُرفَّهتَين للإِنسان المُتحَضِّر، الذي مَا فَتِئ، يُمعِمن عَقله، في مُختلف العلوم المُعاصِرة؛ ويَدُّس أَرنَبةَ أَنفِه في سَائر الفُنون المُبتكَرة؛ ويُنعِم مَلَكة فِكرِه في آفاق التدبُّر، ومَراقِي التفكُّر، في رَحَابة خِضَم فَلك الكون الربَانِي الواسِع المُسير؛ ويُتخِم سَعة ذَاكِرة عَقله الحُبلى، مِن مَوائد حُقُول العِلم والمَعرفة، مَع مَطلعِ كُل شَمسٍ، وتَغريدَةِ رَشاقَةِ تَحليقِ طَائر… وفي الوَقت ذاتِه تَحتاج ضَائِقة مِزاج، ونَازِلة وفِكر الإنسان المُتأَزِّمَتَين إِلى رَحمةِ مَسحَةِ النسيان المُواسِية؛ للتخَلي عَن مَواقف أَحَر الأَحزان المُقلِقَة؛ والتحَلي بمزَيدٍ مِن هَبَّات الصبر، ونَسائم السُلوان الرحِيمَة، عِند نُزول أَقسَى رَزَايا صُرُوف الدَّهر؛ وحُلُول أَصلَب فَاجِعَات الأَيام!… وفي ثَنايَا حَبكَةِ، وعُرَى رِبقَةِ نَسَقِ أسلُوبِ الترابُطِ البِنائي العِلمي المْتأَدِّب، بنَضدِه المَنضُود، وعِقدِه المَشدُود في نَسِيج جَوف كَبسُولة دِيباجَتِه المُتواضِعة، أَسأَل اللهَ العَلي القَدير، سَيلًا مُتدَفقًا مِن مَواكب التوفِيق؛ وشآبيبًا مُتواصلةً مُماثِلةً مِن مَرافِئ السدَاد؛ ورَحَماتٍ مُتصِلةٍ مُن سَابَغاتِ الرشَاد لِذائقَة فِكر القارِئ الكَريم، وبالله التوفيق!



error: المحتوي محمي