العلامات والرموز الثقافية

للأمم والشعوب شعاراتٌ، تحافظ عليها، وتؤدِّيها في شكل طقوس وعبادات؛ من أجل المحافظة على هُويتها، التي تميزها عن غيرها، ففي الحج يرتفع نداء التلبية “لبيك اللهم لبيك”، الذي يهدف إلى الإشعار بالخضوع إلى التعاليم الإلهية، فهذا “الشعار الإسلامي” استقرَّ بصيغته الحالية، التي جاء بها النبي محمد ﷺ، وأي مستمع له سيكون على دراية تامة بأن أيام الحج قد حلَّت.

الشعارات ليست ثابتة، بل متغيرة على مرِّ الزمن، وربما تنتقل من شكل إلى آخر، فبعض عرب الجاهلية طافوا عرايا حول الكعبة، آخذين في التصفيق والتصفير {وما كان دعاؤهم عند البيت إلا مكاء وتصدية}، لكن حينما جاء الإسلام ألزمهم طريقة محددة، ولباسًا موحدًا يطوفون به، مع ترديد أدعية وعبارات معينة، تدلُّ على أدائهم هذه العبادة.

الشعارات علاماتٌ تمثِّل لغة مشتركة بين أبناء الهوية الواحدة، حيث تزيد من تلاحمهم وتماسكهم، فالتلبية تُشعر المسلمين -من جميع الأقطار- أنهم ينتمون إلى ذات الهوية الإسلامية، فتجدهم أيام الحج متماسكين متكاتفين واضعين أيديهم في أيدي بعض، جالسين قرب بعضهم دون تفرقة، وما يساعدهم على التماسك والتكاتف أكثر هو توحيد لباسهم، الذي هو شعار من شعارات الحج، فالإزار والرداء لباس الجميع، ومن يخلعهما يخرج من أداء العبادة، وبالتالي يخرج من جماعة الحجاج.

الإزار والرداء، وترك الطيب والنساء، وعدم أكل الأطعمة المطبوخة بالبهارات جميعها وغيرها “علامات” تدلُّ على أن الإنسان الذي يمارسها ينتمي إلى الحجاج، فهذا هو دورها؛ إذ “العلامة تشير إلى معنى في غيرها”، فالتلبية، أو لبس البياض، أو ترك الطيب، أو اعتزال النساء، أو الابتعاد عن الأطعمة ذات الرائحة، أو التجرُّد من المخيط، إنما هي شعارات تدل على معانٍ في غيرها.

الشعارات والطقوس علاماتٌ دالَّةٌ يمارسها المرء؛ ليوصل معنىً، فما يقوم به من أفعال الحج، أو ينطقه من أدعية وكلمات أثناء أدائه العبادة، إنما يعبِّر عن الوحدة، بين مختلف الأمم والشعوب المنضوية تحت راية التوحيد، وهو ما يقود إلى الهويَّة الإسلامية المانعة الجامعة، فهؤلاء القادمون من أقطار الأرض، المتلهفون لتأدية الشعائر يحملون في داخلهم تماثُلًا مع بقية المسلمين.

الهوية المانعة الجامعة، المؤدية إلى التماسك والتكاتف تعدُّ أبرز دلالات ممارسة الشعائر، وأهم علامة من علاماتها، فمن خلالها يمكن إيصال الرسائل المختلفة، عن قوة الأمة، وعزَّتها، وتوحُّدها، وهو هدفٌ تسعى إليه القيادات السياسية والعسكرية، فالسياسي لا يطمئن إلى بلدٍ مشتَّتٍ؛ فرَّقته الآراء والأهواء، إذ يخشى غدرهم وخيانتهم، وكذلك العسكري لا يطمئن لولاء جنوده ومقاتليه، ويأخذ في النظر تجاههم بريبة وشكٍّ.

الشعارات علاماتٌ تحيل إلى رموز ثقافية، فشعارات الحج تحيل إلى الكعبة المشرفة، ومكة المكرمة، والأذان يحيل إلى الصلاة، ورؤية الهلال تحيل إلى صوم رمضان، وتقبيل القرآن يحيل إلى تقديسه والرفع من شأنه، فالكعبة والصلاة والصوم والقرآن مقدَّسات ورموز، لا يمكن تجاوزها، أو الاعتداء عليها؛ إذ أصبحت من المشترك الدال على هوية أمَّة، وانتماء شعب، وما ينطبق عليها ينطبق على ما يماثلها ويشابهها لدى الفئات والطوائف المختلفة.

الرموز الثقافية لدى كل شعب، بل لدى كل طائفة، تعد من الأمور المؤدية إلى تماسُكها، وتوحُّدها، ومن يعتدي عليها؛ سينال من وحدتها، وهويتها الجامعة المانعة، والتي إن سقطت ستدل على أنها تعيشُ أضعف حالاتها، وآخر مراحل حياتها، مثلما حدث حين حطمت أصنام قريش، إذ بعدها تفرَّق شملُهم، ولم تقم لهم قائمة، فعمل الرموز الثقافية توحيدُ الأفراد وتلاحُمِهم، ودفعهم للمحافظة على الانتماء، والولاء للهوية الجامعة المانعة.

قيام الدول وبقاؤها رهن برموزها ومقدَّساتها، لهذا تبذل أقصى ما تستطيع من أجل المحافظة عليها؛ حفظًا للسِّلم الأهلي، ورغبةً في تعايش أبنائها، وإشعارهم بعدم التمييز عن غيرهم، وهي في محافظتها محقَّة؛ لأنها بذلك تحافظ على وحدتها وتماسكها؛ كي تستمر في مسيرتها التنموية، والتطوريَّة.

الشعارات متغيرة، فيمكن أن تأتي اليوم بصورة مختلفة عن الصورة التي كانت عليها في الماضي، لكن الرموز لا يمكن تبديلها، وما كان بالأمس مقدَّسًا فهو اليوم مقدسٌ كذلك، وهذه الرموز لا تختص بمكان “الكعبة”، أو زمان “رمضان”، أو كتاب “القرآن”، أو شخص “النبي” ﷺ؛ إذ هي متنوعة متعددة، عابرة للأزمنة والأفكار والمتغيِّرات، لذا فإن المحافظة عليها؛ محافظة على الهوية والعيش المشترك.



error: المحتوي محمي