الشيخ عبد الحميد المرهون والإبداع في نصف ساعة!

عندما يجول نظري في الشبَّان الذين يحضرون محاضرة الشيخ عبد الحميد المرهون -حفظه الله- في هذه السنة 1444 هجرية؛ أرى فيهم نفسي عندما بدأتُ الحضورَ في مجلسه في تاروت، شابًّا يافعًا، لم أتغيب عنها إلا في سنواتِ الدراسة، والعمل. أما غير ذلك فكنت أحرص على حضورها.

انحنى ظهرُ الشيخ مع العمر ولم تنحنِ قدرته على الإمساك بزمام المحاضَرة، في هذه السنة يلملم أطرافَ الحديث المتكامل في ثلاثين دقيقة بين مقدمةٍ وشرحٍ وخاتمة. ربما هذا هو سرّ آخر في تنوع وكثافة الحاضرين بين الطفل والشاب اليافع، والشيخ الكبير، يحضرون دون كللٍ ولا ملل!

معضلةُ كل محاضر هي التوليف بين المادَّة والوقت المناسب، أمزجة المستمعين وطول فترة تركيزهم الذهنيّ تتباين؛ ذلك يشتكي من طول المحاضرة، آخر يودّ لو طالت المحاضرة! الخطابة تختلف عن مشاهدة فيلم سينمائي يصل طوله إلى نحو ساعتين من الوقت -وأطول- والمشاهد حاضر الذهن، لأن مشاهدة فيلم لا تحتاج إلى طاقةٍ ذهنيّة واستيعابٍ عميق، في أغلبها سرد لأحداث مسلية ومشاهد ممتعة ومتغيرة.

أما إذا أراد المحاضر أن يستحوذ على عقل المستمع مدّة أربعين دقيقة، أقل أو أكثر، في جلسةٍ أحيانًا غير مريحة، لا بد له من اختيار مادَّة تتناسب مع ثقافة المستمع، يتنقل فيها المحاضر بين التاريخ والأدب والتفسير والعلوم الإنسانية، وتتغير فيها مؤثرات الخطيب الصوتية. عندما يشتكي المستمع من طول الوقت، هو يشتكي من المادَّة المعروضة، لم تكن كما توقعها أن تكون!

كم تمنيت أن يؤسس الشيخُ مدرسةً لتعليم الخطابة، أو يكتب كتابًا عن أسرار النجاح في الخطابة! الناس يتقاعدون عن العمل في الخمسينات من العمر بحجةٍ أو أخرى، وهو يتألق في العطاء. حافظة راقية، أسلوب سلس، وذهنٌ حاضر. الشيخ هو هو كما كنا نسمعه وهو في عنفوانِ شبابه، ومدرسته هي هيَ كما كانت، بل أجمل وأروع!

يأخذ الشيخ الحاضرين في سلسلةٍ متوالية ومهندسة من موضوعٍ واحد، يلج فيه بسلاسة في اليوم الأول، وعلى مدار بقية الأيام يواصل تقليب الحديث في أسلوبٍ قصصيّ بديع، وصوت هيّن لين تطغى على حديثه نداوة وطراوة لهجة “القطيفيين”، ومع ذلك أخال كل أحد يسمع حديث الشيخ الجليل يفهمه ويعجب به أينما كان.

من لم يشكر المخلوق لم يشكر الخالق! شكرًا لهذه القامة الراقية، وأرجو أن أعود وأكرر هذه الخاطرة بعد عشرة أعوام، إن شاء الله، ونشيد بعطائه لسنواتٍ طويلة.



error: المحتوي محمي