أمي من فريق الأطرش (23)

ثلاثة عشر يومًا عاشتها حملة عيسى الدار في ربوع المدينة المنورة، أيام مفعمة بالذكرى الطيبة وروح الفريق الواحد، تجلى ذلك في روح الإخاء والوئام وحسن التعاون عبر حركة منظمة في توزيع الطعام وتنظيم الزيارات.

إيقاع يومي بإشعال حطب الأشجار مواقد للنار من أجل إعداد وجبتي الغداء والعشاء، طبخ معتاد قوامه الأرز باللحم أو الروبيان المجفف لا يتعدى “الصالونة، والبرياني والكبسة”، دون سمك ولا دجاج ولا بيض، تجارة لم تغز المحلات بعد.

أما وجبة الإفطار “بلاليط” أو خبز يغمس داخل كأس حليب، ليس كأسًا من زجاج إنما علب “قواطي” حليب فارغة تم خلع أغطيتها سلفًا، وبعد الانتهاء من الشرب يتم غسلها واستعمالها ثانية!. والخبز “صمون” أو “كماج، بقصم”.

أما الخبز الروحي فيتمثل بالتوجه للحرم، وكل النهارات مكللة بزيارتين، وقت الضحى وعند العصر، في البدء سلام على أئمة البقيع، ثم مكوث مطول في رحاب المسجد النبوي، أدعية وصلوات، وتأملات مسافرة لمولد الهدى وارتحالات أخيلة لزمن الهجرة من مكة إلى حضن يثرب، حنين لأيام العهد الجديد، وحياة أهل البيت، النظر للمرقد، نبضات قلبية وقبس فيضي بإشعاعة النور الذي سرى عبر قرون في كيان الأمة. تخلل ذلك يومان لرؤية المعالم والآثار الإسلامية الخالدة. ثمة نفوس تمنت لو رأت أكثر مما رأت، مثل كنوز الروضة الشريفة، ورؤية حصن خيبر، وأرض فدك، لكن طول المشوار حال دون الارتحال لهما. وأبعد من ذلك وأقرب، تأدية الصلاة الواجبة في حمى الحرم ذلك لم يتحقق!

ربما التماس العذر مقبول عند رعاة الحملات، فلم يكن بوسع حملة أعدادها كبيرة أن تنطلق بشكل جماعي لأداء الصلاة يوميًا، فالازدحام على أشده أثناء موسم الحج.

يضيق الحرم بالناس ولا يسع النفوس المتكالبة، إذ تبلغ مساحته نهاية الخمسينات 16,327مترًا مربعًا، فهو حيز محدود لا يستوعب الأعداد الغفيرة من المصلين التي تفد لأداء الصلوات الخمس، يكتظ المكان على آخره ويفيض، لدرجة أن المصلين يملؤون الطرقات المؤدية للحرم من كل الجهات.

بهذا الجو المزدحم لم يكن عند صاحب الحملة من خيار سوى ترك الموضوع بشكل شخصي، وللرجال فقط، أما النساء فليس لهن من سبيل إلا السمع والطاعة بالتزام البيت والصلاة في أوقات الزيارة.

تنهيدة من الشابة مريم هبوب: “أني جيتك يا رسول الله ١٣ يومًا ما صليت عندك مرة صلاة الواجبة، الله يعودني وأصلي في حرمك وقت الصلاة” دعواها لم تخب أتت بعد سنين.

أي فعل حسن يقوم به أهل الزائر وهو للتو خارج من بيته قاصدًا الديار المقدسة حيث يكنسون أثر خطوات أرجله، وتجمع حفنة تراب بحجم قبضة اليد وتقدر وزنًا ليخرج بها صدقة، تيسيرًا للدرب وحفظًا من الأذى.

ظلال الذكرى عالقة في ردهات البيت الذي حوى عائلة آل زرع بالمدينة، فهو مكون من أربع غرف؛ اثنتين من دون سقف ولا باب، والأرضية متربة إلا من بساط يوضع فوقه منام قطني متآكل وأغطية بالية، وعند حلول ظلام الليل يضاء البيت بفانوس يسمى “لاله” ذات زجاجة طويلة، مكورة في الأسفل ممتدة برقبة أسطوانية، والقاعدة معدنية مدورة في داخلها “گاز” تبرز منها فتيلة توقد ليصدر منها الضوء.

أما ماء الشرب فكل الساكنين يشربون من زير فخاري وبكأس واحد، حدث جدال ضد صاحبة البيت من شدة اتساخ الزير بإيجاد ماء نظيف. قالت لهم “هذا هو الموجود والعطشان يشرب”! لم تستجب برغم سخاء الحملة معها حيث تأخذ نصيبها من وجبتي الغداء والعشاء يوميًا لها ولابنتها وزوجها، إنها توزيعة بركة “على حب النبي”.

وحظي البيت بصلاة الجماعة ظهرًا بإمامة الشيخ فرج العمران على مدى ثلاثة عشر يومًا، وعند المغرب تسمع من بيت مجاور قراءة حسينية. بدفء الأشواق سال قلم الحبر تدوينًا بكتابة رسائل باسم كل عائلة، بعث سلامات وتطمينات للأهالي في القطيف. حين قرب موعد خروج الحملة من المدينة سار الركب بحفظ الله ورعايته، وعند عصر يوم الخامس من شهر ذي الحجة توجه الجميع إلى “أبيار علي” للإحرام ومن “مسجد الشجرة” تم تغيير الملابس ولبس رداء الإحرام وقراءة النية.

“السيد…” الذي أتى في الوقت الضائع مع الحملة، لم يحسن قراءة النية ولا سورة الفاتحة فقيل “له خلاص أنب أحدًا عنك والمرشد هو الأقرب” فقبل بذلك، وثمة شخص حب أن يستفزه مازحًا: “الحين يا سيد نوبت غيرك عنك، لكن خسرت أهلك، ترى زوجتك ما هي لك أخذوها منك”، هاج وماج وبصعوبة بالغة هدأوا من روعه، مؤكدين له ومقسمين بأغلظ الإيمان أن هذا ليس صحيحًا! “شاب بسيط على قد نياته”، وشخص آخر أيضًا لم يحسن القراءة أناب الغير عنه، وكل حملة من الحملات لا تخلو من تلك المواقف المحرجة والمضحكة وللرجال النصيب الأكبر منها هل النساء أفصح لسانًا؟

منظر الرجال آسر وهم بلباس الإحرام الموحد، أما النساء فيتكون لباسهن من وزار وثوب وبخنگ وشيله، وعباءة، ومقنعة، وقليل وضعن “مراوح” من خوص على وجههن تظهر منه أعينهن، شبهن “بالديدعات” مداعبة النساء مع بعضهن البعض، لم يكن نساء باص تاروت أية واحدة منهن، هذا عائد لاجتهاد المرجع وعلى المقلد اتباع ذلك، ثمة تحذيرات من الشيخ فرج العمران والمرشد ملا عيسى بن عباس، للنساء عند الطواف بألا يلامس إحرامهن الوجه بتاتا ولا يحك الجلد نهائيا.

بدأت التلبية بصوت جماعي، سيارات سبع ودعت المدينة المنورة مخترقة شوارع جدة، وأثناء العبور توقفت القافلة ساعة زمن لشراء بعض الأسماك فرائحة البحر أسرت الأنوف.

نبض القلب إيقاع حب يتراقص، والرؤية لهفة شوق تتسارع، الليل بسواده، والأبدان مضاءة بالأبيض خاشعة بالتلبيات، سارت القافلة جنوبا قاطعة الوديان والسهول والتلال والجبال، وطوال الدرب حناجر تهتف: “لبيك اللهم لبيك.. لبيك لا شريك لك لبيك.. إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك “، وعند منتصف الليل وصلت الحملة قلب مكة، حط الرحل في سكن موزع في بيوتات متقاربة صغيرة المساحة، لكن الأفواه تنتظر وجبة مختلفة عن كل ما طبخ سابقًا، أعدت أكلة هي المطلوبة لغالبية حجاج الحملة، تناول الجميع أرزًا أبيض مزدانًا بالسمك المطبوخ، لعق أصابع ولحس حبات أرز، قال بعضهم “آخيرًا دش بطنا السمچ ما وراء علينا” شعب السواحل يحنون لطيبات البحر. آوى الجميع للنوم بلباس الإحرام، والنساء مكدسات في غرفة ضيقة جدا، الأجساد شبه متقاربة، وجوه تقابل وجوهًا، والحركة مقيدة، وعن هذا المشهد تقول مريم هبوب: “نمنا كمنام غواص، النومة على جنب ما لينا ننقلب صوب فاني ولا على الظهر مثل حصر الغواويص اقباب، ما جاني نوم، نوم متقطع، يوم فاني استأجر لينا خالي حجرة فانية في الدور الأرضي كلها متروسة شبالي (أسرة) أريح إلينا، ومسقفة بسعف ومدارها كله مزروع ريحان داخل فخاريات، وديك الحجرة فيها كهرب وهذي أول مرة أسكن في مكان فيه ليتات، والبيت من دورين ساكنة فوق مرة ويا حماتها ضبعة، وتحت لوحده ينادون عليها أم صويدق ولدها يطوف الحجاج في سحلات، ونسوان راعيات البيت لابسات أوزارًا وقميصًا، ما يتغطون عن الرجال أبدًا حتى في الطريق،هياتوه”.

كل مجتمع له عاداته وتقاليده أن تأتي من مكان قصي، مغلق على نفسه إلى مكان مفتوح متمازج مع أقوام وشعوب، تحدث صدمة للعين ويغدو المألوف غريبا، وربما مستنكرًا، لكن التعود على ذات الشيء مع الزمن يصبح مقبولًا.

مكة المكرمة كرمها الله بقدسية هائلة دون سائر البلدان، فهي مهوى أفئدة المسلمين، تحرسها الجبال منذ الأزل، حيث تتمدد على سلسلة جبلية بألوان بنية داكنة ومتموجة، تبرز من بينها الوديان والشعاب التي تؤدي للبيت العتيق، الواقع بين جبلين “أبوقبيس” وجبل “قعيقعان” لهما حكايات ومرويات في الإرث الإسلامي، وتمتاز مباني مكة بجمالها المعماري المتفرد عن بيوتات المدينة المنورة وكذا علوها الشاهق، نتيجة انتشارها على سفوح الجبال، مما أعطاها إيقاعات تكوينية خلابة كأنها ناطحات سحاب.

بعد تناول الفطور المعتاد لحملة عيسى الدار وفي أول صباح من صباحات مكة، اصطحب كل مرشد جماعته يقودهم نحو المسجد الحرام، مبتدءًا لحظة الدخول من باب السلام، ولسانه يلهج: “السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، بسم الله وما شاء الله، السلام على أنبياء الله ورسله، السلام على رسول الله، السلام على إبراهيم خليل الله والحمد لله رب العالمين “.

قلوب تخفق والأبصار خاشعة وجلال الكعبة الشامخة قشعريرة تهز الأبدان، الضياء والنور يتجلى، هنا محور الكون، وأرواح تدور عكس عقارب الساعة وكأن الزمن توقف عند لحظة الطواف الأول، أيد رافعة نحو السماء والافئدة تبصر كيان الكعبة، تبصر الجلال والعظمة، تبصر الهيبة، تبصر الروعة، تبصر العلو والسمو، تبصر المغناطيس الجاذب لملايين البشر من مشارق الأرض ومغاربها، تبصر امتثال البشر لآيات القرآن وسنة الله في خلقه، قبلة آسرة، كيان ساحر، استقبالها طاعة، والوقوف عندها عبادة: “اللهم إني أسالك في مقامي هذا وفي أول مناسكي أن تقبل توبتي وأن تتجاوز عن خطيئتي، وأن تضع عني وزري، الحمد لله الذي بلغني بيته الحرام، اللهم إني أشهدك أن هذا بيتك الحرام الذي جعلته مئابة للناس وأمنا مباركا وهدى للعالمين، اللهم إني عبدك والبلد بلدك والبيت بيتك، جئت أطلب رحمتك وأؤم طاعتك، مطيعا لأمرك بقدرك، أسألك مسألة الفقير إليك الخائف لعقوبتك، اللهم افتح لي أبواب رحمتك واستعملني بطاعتك ومرضاتك”.

طاف الجميع سبعًا وأدوا الصلاة خلف مقام إبراهيم وسعوا بين الصفاء والمروة، وارتشفوا من ماء بئر زمزم. راحة بال بعد الانتهاء من عمرة التمتع، وروحانية تسكن النفوس بطمأنينة قلب.

عند ليلة التاسع توجه الجميع على رسلهم للمبيت بمنى، وحدثت المفاجأة التي لم تكن في الحسبان، جميع الخيام المعدة لحملة عيسى الدار لا أثر لها على الإطلاق، ومكانها أخذته حملة أخرى، بحث ضائع، وسط حشود من البشر وأسئلة حائرة، هل سرقت، مزقت، صودرت، ذهل صاحب الحملة، ضاربا فوق رأسه، درع الأمكنة لعله يلمح خيامه، وبعد بحث مضن عثر على خيمتين ملقتين على الأرض لا تكفي لأعداد النساء الكثيرات، نصبتا على عجل بالقرب من المسلخ، تكدست داخلهما الحاجيات، بينما الرجال جالسون بجانب السيارات الواقفة، وذات المشهد تكرر طوال يوم عرفة وليلة العاشر المبيت بمزدلفة ومنى ثانية، خيمتان الخروج منهما أرحم من البقاء داخلهما لكن الشمس محرقة، بعضهن خرجن وجلسن بجوار أزواجهن، والرجال أجساد ممددة بجانب سيارات الحملة، لا نسمة هواء، والظل هارب وقت الظهيرة، ازدحام وشق أنفس خلال التحرك في جميع المشاعر.

وعلى جبل عرفة وقف الحجيج لمناجاة الرب من تباشير الفجر إلى دلوك الشمس، حناجر تهتف بأدعية والأصوات متداخلة كطنين النحل، استغفارات وابتهالات كسيل جارف.

وعند التقاط الجمار من مزدلفة، كل يبحث عنها ويضعها في كيس قماشي، قيل للنساء ما جمعتنه ليس صالحا للرمي، جمع لهن شباب الحملة الحصيات المناسبة وما لزم من أعداد مرات الرمي للشخص الواحد.

في ليلة العاشر توجهت النساء للمبيت في منى ودخلن خيمتهن “الگرگور” وما أن تمددن إلا وتفاجأن برجل من خارجهما ممسكا بحرام أمرة عجوز بالكاد تمشي، ينادي عليها “منهو ضايعة له چليبه”. وقف برهة ثم تحرك إلى مخيمات أخرى وهو يعيد ذات النداء.

في صبيحة يوم العيد ذهبت النسوة كلهن لرمي العقبة الكبرى وبعد أن أنهين كل الحصوات التي في أيديهن هممن بالدخول لمسجد “الخيف” وعلى العتبات حدث تدافع فيما بينهن وتساقطن تباعا، تكومن على بعضهن البعض، فزعن، تصارخن، وما أن رفعن أجسادهن المتعبة الواحدة تلو الأخرى إلا وامرأة منهن تتلوى ألمًا فكل الأجساد هوت عليها، أثقال حمل أفقدها الوعي، غشي عليها، حركوها، عدلوها، ظنوها فارقت الحياة، خوف سيطر عليهن بوجل، مروحوها، تتنفس بصعوبة، رشوها بالماء، أحضر لها “حموها” عصير برتقال معلبًا، شربت قطرات وهي ترتجف، ساعدوها نهوضًا بالكاد وقفت، تتحرك بصعوبة بالغة، تخطو متكئة عليهن، بكت “حريرية” وهي تتحسس بيديها تكور بطنها، وتقول: “ما يندرى اللي في بطني يعيش لو ما يعيش”؟ -عاش- مشت ببطء حتى وصلت الخيمة أوجدوا لها مكانا تمددت وغابت في النوم. وبعد لحظات فاحت روائح دماء الأضاحي، وبمحاذاة خيمة الحملة جمل مسلوخ الجلد مقطع الأوصال منشور على عوارض خشبية لتجففه الشمس، رائحته “فضت” المكان ولم يستطع أفراد حملة الدار تحمل ذلك حتى النوم جافهم، أرادوا تغيير محلهم لكن لا يوجد مكان يضمهم جميعًا.

وعند تناول وجبة عيد الأضحى هب الجميع بمكافأة طباخ الحملة بإعطائه عيدية إكراما لتعبه اليومي، فهو أكثر شخص بين الجموع الذي لم يهدأ ولم يسترح، مستميت من أجل إعداد الوجبات الثلاث تسانده سواعد شابة ورجال الحملة.

انصرف الحجاج لتكملة المناسك بالتوجه للمسجد الحرام، طواف الحج والسعي بين الصفاء والمروة، موج بشري أبيض يدور دون توقف وأدعية تلف الكعبة مع كل شوط، دوران البياض حول مركزية السواد، تباين لوني مع تباين صوتي، السنة تلهج بالدعاء تلو الدعاء، ومن كل فج عميق تتداخل الأصوات بالأصوات، لهجات، لغات، أنفاس من أمم الأرض من أدناها إلى أرفعها ومن وضيعها إلى سيدها، ومن فقيرها إلى غنيها، تمازج في تمازج، أقوام يشكلون لوحة فسيفسائية، بياض وحمار وصفار وسمار وسواد، التحام بشر ببشر، سواسية في أيام معدودات، تتجلى الأنفس كنفس واحدة نحو خلقتها نحو نطفتها نحو أصلها، أرواح تحوم وتحوم كطيور محلقات، يسبحون لملكوت الله، الملائكة تحرس الطائفين العاكفين الركع السجود، انسيابية الطواف معجزة لا تتوقف حتى قيام الساعة.

بعد أن انقضى الطواف والسعي، توجه الحجيج نحو منى لأداء ما تبقى من النسك. نسوة الحملة تحركن على شكل جماعات وانتهين من الرمي الأخير في يسر وسهولة صباح يوم الثاني عشر، وحين صعدن للسيارة بعد النفرة، قال صاحب الحملة قبل تحرك السيارات إلى مكة: “احسبوا بعضكم يا حريم، ما أحد منكن متأخر؟ ما حد ناقصنا؟” التفتن لبعضهن، وتتالت الأصوات: “قاصرتنا مرة واحدة، بنت حجي عيسى بن سالم ما هي ويانا”! هب الرجال للبحث عنها في جميع الاتجاهات والمناداة باسمها، تتوه العيون والصوت ضائع بين الجموع الخارجة، انكشف المكان أكثر فأكثر بعد إزالة الخيام، ذرعت مساحة منى بكاملها وكل تضاريسها دون أثر للمرأة الضائعة، بحث مضن طوال العصر، وقبل ساعة من غروب الشمس دب التعب وحل اليأس والوجوم خيم على الوجوه، وكأن الكل متهم. طلب من زوج ابنتها أن يبقى مع مجموعة الضائعين في منى وسيارات الحملة ستتجه نحو مكة لتحميل الأغراض والاستحمام في السكن، عند لحظة التحرك قال طباخ الحملة: “شفت امرأة من عندنا متجهة نحو الغرب قلت احتمال ترجع مرة ثانية”، وجه له اتهام عن حديثه المتأخر وتبعوا جهة الغرب بتركيز أكثر لكن بعد فوات الأوان. “قفرت” منى من الحجيج ورجع زوج البنت لمكان الحملة وهو يندب حظه، يهذي في الكلام ويرمي التهم خبط عشواء.

جهز العشاء وبرغم الجوع لكن النفوس أبت أن تضع لقمة في جوفها. كل “متكدر الخاطر” يدعو الله أن ترجع لهم بنت سالم سالمة. دعوات مخلصة أتت برجل من تاروت اسمه “عبد علي يوشع المرزوق”، ينادي بين باب النزل والباصات “يا حملة عيسى الدار عندكم حرمة ضايعة” جاوبته أصوات مشغولة بتحميل حقائب السفر، كل ألقى ما في يده، وبصوت متلاحق “إيه إيه، وين هيه” أحاطوا به في الحال وبعيون جاحظة، قال بتبسم “حاجية من حملتكم، اسمها مريم بنت عيسى بن سالم زوجة يوسف الشاووش”، حضنوه فورًا، ولحقوا به. “تعالوا وياي لحملتنا وخذوها بسلام”، تناقل الخبر السار، وإذا برجال الحملة يرقصون رقصًا بشكل هستيري: “هذي بت حجي عيسى بن سالم شافوها.. أي والله شفناها” يرددون النغمة مرارا، يصفرون، يلولون، يصفقون، تطايروا من شدة الفرح، ردح متواصل، رجّوا الأرض رجّا، مثل صخب جمهور لحظة إحراز هدف النصر في الوقت الضائع.

حضرت وهي تبكي من شدة الفرح وكل نساء الحملة تحضنها حضنة بعد أخرى زفت وكأنها عروس، زينت النسوة أكفهن وأرجلهن بالحناء وسرحن شعورهن.

سارت الحملة ليلة الثالث عشر متجهة للقطيف، فرح غامر على إتمام مناسك الحج. وفي طريق العودة أفصحت “مريم آل سالم” لحظة توهانها بأنها في شهرها الثاني من الحمل وبعد الرمي أحست بالدوخة والدوار فتنحت جانبًا لتقذف أكلها الذي لم يهضم، ترجيع متقطع أتعبها، فأحست بالدنيا تدور بها وكأن على عينيها غشاوة، ضلت طريق الحملة وتاهت على وجهها، تسأل حملة بعد أخرى، إلى أن تنبه لها أفراد حملة سيد باقر من القطيف، وبعد سؤال وجواب، جرت محاولات مستمية لصعودها في سيارتهم، لكنها أبت، أقنعوها بالتي هي أحسن ورفضت، ثم أخذوها بصعوبة بالغة معهم متجهين بها إلى مكة، للبحث عن حملتها. وهكذا انتشلت وأرجعت إلى حملة الدار معززة مكرمة.

ودع الجميع مكة المكرمة وكل يقول: “إلهي بالعود، يا رب اكتب لنا كل سنة حجة وعمرة “. صوت نسائي مبحوح عبر عن دواخل نفسه ، “اني ما ابغى أجي الحج تعبه، إن شاء الله مأعود أجي” قلت النوم والمرض يجعل الانسان أحيانًا  يقول كلامًا وليد لحظته ثم يتراجع عنه. ردت النسوة “استغفري ربك لا تقولي هالكلام..يالله بالعود”. وصوت ملا عيسى في هدأة الليل يقول : “انقضت مناسك الحج اطلع يا غريب” تعبر السيارات السبع تضاريس مكة وتجتازها إلى أن انبسط الدرب، وكل يحدث الآخر في محبة وسرور على تمام الحج، ألسنة تلهج بالدعاء بين لحظة وأخرى “نسأل الله القبول”. غط الجميع في النوم والكل استرسل في أحلامه.

وبين انتباهة عين لأداء الصلاة وتناول الطعام تطوي السيارات ليلًا صحارى تلو الصحارى، سكون الليل صمت إلا من “دوي مكائن السيارة”. سوالف متفرقات وفرح غامر كلما “هيدت الحملة” وسط البراري القفار، يفترشون الرمال الحمراء التي تهب بذراتها المتطايرة على الوجوه، لكنه درب موحش خال من الاستراحات، وحرص بعدم الابتعاد عن أنظار عيون الحملة خوفًا من حالة خطف، وتحذير مكرر على الجميع.

يحكى أن امراة من تاروت كانت ذاهبة للحج مع أهلها ضمن حملة قطيفية بداية الخمسينات الميلادية وبينما أفراد الحملة منتشرين لقضاء حاجتهم في منطقة نجد، وحين أرادوا الصعود وهم في ذهابهم للمدينة، فقدوا امرأة تدعى “مدينة” أعياهم البحث وبكوا بكاء مرًا، ولم يعرف سر اختفائها حتى الآن. تلك حادثة ألقت بظلال الخوف على الحملات بأخذ الحيطة والحذر. التعاون بين جميع حملة الدار على أشده من توزيع الوجبات الثلاث، وكذا مساعدة الكبار على الصعود والنزول من الباص. ضحك وفرح وحالة وئام تسود الجميع.

عند اقتراب فجر اليوم الثالث من المسير هب الجميع لأداء صلاة الصبح كلهم نزلوا إلا واحدًا مستغرقًا في النوم، حاولوا أن يوقظوه بأدب واحترام لكي لا يزعجونه، ولم يزل نائمًا، وحاولوا مرارًا وتكرارًا دون فائدة، هل يتركونه نائمًا وتفوته الصلاة، يخشى بعد يصحو من نومه أن يلومهم لعدم إيقاظه، لكن ليس من عادته أن يغط بهذه الصورة! أحد الشباب شك في الأمر وقرب أذنه بجانب قلبه، قال للجميع: “يا جماعة أظن افلان مات”! بهت الجميع وسرت حالة هلع وخوف، تأكدوا بعد تقليبه مرارًا وتكرارًا بأن الله أخذ أمانته!

ساد الحزن على ملامح جميع ركاب الحملة وتوقفت السوالف والكل يرسل الترحم على روحه. “رحمك الله يا فلان”، “كنت طيّبًا”، “كنت ضحوكًا”، “كنت وكنت”.

قبل ساعات نفس ملئت بالفرح والبهجة، وبعد لحظات صارت في خبر كان، غطوه برداء وهو ممدد بين ممر كراسي السيارة، والكل متوجس من الموت، هل ملك الموت لم يزل يحوم في الباص وربما يخطف نفس أخرى، بعضهم جافاه النوم، وكلما نام شخص ولم يقم من النوم فورًا ظنوه وافاه الأجل المحتوم! “وش مت أنت بعد”؟ هواجس تقتحم النفس “إن الإنسان خلق هلوعًا”.

بعد مرور يوم والجو حار ولاهب فاحت رائحة الجثة بشكل لا يطاق، “كل تلطم بغترته” ومع مرور الساعة تلو الساعة، “بلغ السيل الزبى” من رائحة حشرت الباص حشرا، ركاب أخرجوا رؤوسهم من النافذة ليشموا هواء الصحراء، الرائحة خانقة، والأعصاب مشدودة، والوجوه عابسة، أجبر سائق السيارة على تهدئة السرعة، وعدم مواصلة المسير، وقف جانبًا وأطفأ المحرك تبعته سيارات الحملة واحدة تلو الأخرى، اصطفوا وراء بعضهم، نزلوا يترنحون بكآبة المنظر، ارتباك وفوضى، دار جدل حاد بضرورة دفن الجثة في الصحراء، للتخلص من الرائحة التي لا تحتمل، وهنا اعترض الشيخ فرج العمران، “الرجل يوجد في أغراضه سدر وكافور وسوف يكفن بإحرام حجته، لكن هل عندكم أدوات لحفر القبر، ما يصير نترك الجثة تنهشها الكلاب”؟ نزاع حاد بارتفاع الأصوات المطالبة بالتخلص من الرجل الميت، أصر الشيخ بقوة بأسه وشكيمته وكلامه العقلاني. قائلًا لهم “خاس خاس وانتوا ما بتخيسوا”!

وقف الشيخ سدًا منيعًا في وجه المطالبين بالدفن في العراء وفي مكان غريب، سانده ملا عيسى بن عباس، مؤكدين للجميع “أن الرجال الله يرحمه، يجب أن يدفن في مقبرة الخباقة ويشيع بين أهله وعشيرته”.

سارت السيارات والنفوس مشحونة وغاضبة ومتوترة خاصة ركاب السيارة التي تحمل الجثة. إيه يابن آدم “أولك نطفة وآخرك جيفة”.

لاح فجر خامس ونودي للصلاة، بعض الأجساد تتحرك متثاقلة، هذا يصحو متثائبًا وآخر يفرك عينيه، والأسى مطبق على النفوس، انعطفت السيارات جانبًا وتبعتها الأخر. لحظات وصعد مقاول الحملة لباص تاروت ينادي على بنت عبدالنبي، المعروفة شعبيًا “بت حجي عبدالله الولادة”، “تعالي يا حجية عندنا مرة بتولد، لحقي عليها بالعجل”، نزلت وصعدت باصًا آخر، وأنزلت المرأة التي على وشك الولادة، أخذتها بتؤدة خلف آخر سيارة، آهات، صرخات، قلق، ترقب، آلام، شهيق مفزع، طلق مستمر، محاولات مضنية بدفع الجنين خارجًا “خروج الروح من الروح”، حبس أنفاس، ألسنة تلهج بالدعوات “يا مسهل.. يا معين.. سهل ولادة المرأة المؤمنة.. يا الله يا كريم.. يا رحيم”.. بعد ساعة مخاض عسيرة؛ أنامل بنت عبدالنبي تسحب الجنين مع بزوغ أول خيوط الشمس، سمت عليها بالرحمن همست بكلام هادئ “مبروك ترى جبتي بنت حليوة مثل وجهك الصباحي، قومي يا بتي وارتاحي.. الحمد لله”.

صراخ مولودة أتت للدنيا، تردد صداه في فضاء الصحراء، ركب الجميع والكل يرسل للمرأة التبريكات والتهنئات كل “يتحمد” لها بالسلامة.

سارت القافلة والمشاعر متباينة بين حزن وفرح. نفس فارقت الحياة وأخرى أتت والفارق يومان، بين ساعة وأخرى نفس تأتي وأخرى ترحل، هكذا هي الدنيا، ولادة وموت، وعيش وفناء ودورة تجدد.

رحلة عيسى صالح الدار لحج عام 1379 بكل ما حملت من مفاجآت وتقلبات وحالات تيه وصراخ ونحيب وجوع وتوتر، وسعادة وعبادة، وفرح ورقص وأكل وأنس وموت وولادة، هي قافلة بانورامية وضاءة بكل صراعات النفس البشرية، وتجليات الأرواح، هي رحلة مصغرة للحياة.

تذكارات:
كانت قيمة “حجة” والدتي 150 ريالًا. وقد استغرقت الرحلة منذ تحركها من أرض القطيف لوقت رجوعها 32 يومًا، الذهاب سبعة والرجوع ستة. وصلت رسائل الحملة للبلد في نفس يوم الوصول القافلة!

تم اختصار الكثير من مشاهد الرحلة، وبعضها ركن جانبًا من ضمنها لحظات الاستقبال الآسرة.

القابلة التي ولدت المرأة في الصحراء هي نفسها بعد ثلاثة أشهر سحبتني من بطن أمي في ربوع فريق الأطرش.

جزاها الله خيرًا، وتغمد الله أرواح حجاج هذه الرحلة بالرحمة والمغفرة، رحلة مضى عليها 64 عامًا، ومازالت شاخصة في ذاكرة أمي: ودائمًا تكرر على مسامعنا بعد أيام عيد الأضحى المبارك “أكلنا لقمة العيد وهل هلال عاشور”.



error: المحتوي محمي