يحسدنا الآخرون على ما تتيحه لنا المجالس الحسينية من فرص علمية ثقافية دينية توعوية، في تجمعات يترقبها الملايين كل عام، خلال أيام عاشوراء الحسين عليه السلام.
الفضلاء من خطباء المنبر -حفظهم الله- يقدمون جهودًا مميزة، من خلال تحصيلهم العلمي، إضافة إلى خلاصة أبحاث وقراءات ومصادر علمية، منتهزين أمثال هذه الفرص كبرامج للطرح الفكري، لكننا حينما نستقرئ ونقيّم الجهود المبذولة، تختلف وجهات نظر الكثير منا في تقييمها؛ فبعض الخطباء اعتمدوا أسلوبًا ومنهجًا واحدًا في قوالب محددة طيلة مسيرتهم الخطابية، لا يحيدون عنها ولا يميلون.
إنّ أُذن المستمع لم تعد هي نفس الأذن القديمة، بل إن استماع المحاضرة وقراءة ما بين السطور، ونوعية الطرح قد احتواها ما احتواها من الاستفهام والأسئلة والمداخلات والمناقشات بل والاعتراضات -وسمّها نقدًا إن شئت- على نقاط هنا وأخرى هناك، صار لها حلقات نقاش واستدلالات وتعليقات حول ما يتناوله الخطيب، وليس ذلك إلا دليل وعي المستمع وثقافته، وهو -بلا شك-يضاف إلى مجموع ما نحسد عليه.
ولم يعد المجلس الحسيني مجرد توثيق حدث تاريخي ومسلمات لبعض الروايات التي تناولنا وتداولنا بعضها، وكان بعضها مما لم يستند إلى مصدر روائي موثوق، أو مما غلبت عليه العاطفة على حساب السند، وكانت مما يمكن تجاوزه آنذاك، هذه العقليات بدأت تدخل وتتداخل مع بحوث وأطروحات الخطاب الديني في المجتمع، لتوصل رسالة للخطيب الحسيني أن نوعية الطرح التي عفى عليها الدهر لم تعد تلقى اهتمامًا ولا أذنًا صاغية مثل ذي قبل، حتى لو كانت على حساب الدمعة في السيرة الحسينية.
ساحتنا الدينية زاخرة بمجموعة من الخطباء المتميزين، من نوعية الخطباء الذين يشعرونك وأنت تتابع محاضراتهم أن هنالك طرحًا وفكرًا جديدًا، وطريقة بحث جديدة تلامس أفكارك وكأنك تسمعها لأول مرة، وتظل طيلة المحاضرة تتابع بذهول متسائلًا: لماذا -للتو- أعرف مثل هذه المعلومة التي هي من صميم معتقدنا وفكرنا الديني؟
الشيخ زهير الدرورة نموذجًا
سماحة الشيخ الجليل أمد الله في عمره, قدم أسلوبًا منبريًا، وأنموذجًا رائعًا من الطرح قل نظيره. يمكن الإشارة إليه باختصار في الطرح الخطابي المميز، الحضور الذهني والكاريزما الخلوقة الراقية، الهندام والشخصية، قوة البحث وتنوع الأفكار وترابطها، الجهد في البحث والتقصي الروائي، التمكن من أعماق اللغة وعلوم النحو والبلاغة، والتنوع في البحث وأسلوب الطرح.
كما يتميز سماحته بطريقة مميزة في شد انتباه المستمع ومشاركته، بل وفي بعض المحاضرات يقدم مشاركات أشبه بالواجبات أو التكليف في بحثه الذي يتناوله، طالبًا بطرقه المؤدبة المشاركة والتحضير والمتابعة قبل المحاضرة وبعدها، حرصًا منه على وصول الفكرة لكل الحاضرين والمستمعين.
هي رسالة نابعة من القلب لخطباء المنبر الكرام، وهي انتهاز مثل هذه الفرص، ومحاولة محاكاة الواقع بتقديم المميز والأكثر تميزًا؛ من أجل منبر ثقافي لمجتمع واعٍ، ومن أجل الرقي بالفكر والنهوض من خلال محطة عاشوراء، فهي فرص ليست في متناول الآخرين.