فراق بعد وفاق .. حدث وحديث (22)

مَا أحلَى سَاعات اللقاء الباهِرة؛ ومَا أَروعَ سَنوات العمر الماتِعة، ومَا أَمتعَ عُقود الوِفَاق العَطِرة النضِرة، بين عَلائِق ووَثائِق بَني البشر… حَيث تَمضِي هِمَم المَواكِب الفارِهة، وتَسَير عَزائم قَوافِل أَعلام السنين الصامِدة، سَلِسة خَفاقة؛ لِتَمخَر بفَخرٍ وتَمَدُّح، عُباب صَفحة قِطار العُمر؛ وتَطرِب بشهامة وتّرَفُّع، ذائقة صَبابةً نَسائم الوِجدَان؛ وتَستقِي رِيًا جَوهر لُباب الفِكر؛ وتندِي اشتياقًا وَليجَة سَريرَة الوَجد المُتأجِج؛ وتِنبت مَحبةً مَغارس شتلات الورد المُتفتِّح، وتُحيي استحسانًا مَنابت الريحان، وتُلوِّح استجوادًا، في زَهو بَساتين الأَمَان، برَوابِط، وضوابِط، وأَواصِر حَاضرة، تزيد مِن أَصل لُحمتها الرابطة اتفاقًا طَرديًا، يومًا بَعد يومٍ، خاصة بين قلبي الزوجين المُتحابَين، اللذَين أَودَع الله تعالى- جَلت قُدرته، وتَعالت عَظمته- أَسرارَ الثكاثُر؛ وغَرس وِجدان نَزعَة التفاخُر، وأَظهر كَوامِن صَفاء الأَمْرَة، وأَسدى مَحاتِد تَجليات نَماء البركة، في أَمصَال أَصلَاب، وأعقاب، شُعوب، وقَبائل مُنتشرة مُتفرقة؛ لَحِفظ دَيمُومَة النسل، وعِمارة الأَرض، ونَشر مَنابع الخير، ونَثر أُطُر السعادة، وعِبادَة خَالق الكون، ووَاهِب أَسرار الوجُود!… أَمْنًا وأَمَانًا مِن سائر مِن هَجَمات غَائِلة الفِراق المُقيتة، وذَائع نَكَبات طَائِلة الإَحَن الذمِيمَة، وشَائع صُرعات دَاهَيات الشتات السقِيمَة… كلها رَزَايا وخَطَايا جِسَام ، وزَلَّات وسَقطات عِظَام، تنال مِن ذَائقة ودَيمومة سَلامة الوِفاق، وتَعكِّر صَفو نَقاوة أواصِر التصَالُح؛ وتُضعِف ووَشائج التسَامُح؛ وتِكدِّر أَندَى مُجريات المَحبة الصافِية؛ وتُوهِن أَسمَى مَنابع الصدق الوفِية، وتَصد انصِباب سَلسَبيل مَوارد إِمداد الوفاء… بعد تَدفُّق غَامِر لحَلاوة الأَيام، وتَفتُّق عَامِر لطَلاوة الأَحلام، واحتِدام عَارِمٍ لفِراق الأحَبة الكِرام….

… لتمضي طَلَّة ناصِية قَطار العمر، في غُرَّة مَطلع مُشرِق، مِن هَجعَة مَخدَع، العقد الثامن المَيمُون، مِن أَحلى سِيرَة ومَسيرَة القرن الميلادي المُنصرم، لأَجِد نَفسي مُتسمِّرًا في بيت أْستاذ اللغة الإِنجليزية الأَمريكي، في شارع فَسيحٍ مُشجرٍ، بمدينة “دنتون” العريقة، في شمال وِلاية تكساس، الشهيرة بجامعتيها الشامِختين: (نورت تكساس الحكومية، وجَامعة تكساس النسائية، آنذاك)… وكُنت أَتردد على مَنزل أْستاذي القَدير النِّحرِير، بين الفَينة والأُخرى، في صَحو أْمسِيات مُتجددة، أقَضِّي زُهاءَ سَاعة زمن، في كُل زِيارة… حَيث يَعيش لوَحدِه في مَنزله العَتيق، بمُحاذاة الشارع المُشجَّر الأَنيق… بعد أَن هَجرته رَفيقة دَربِه للأَبَد، بزجِّ قُصاصة وَرقة “فِراق وطَلاق” لا رَجَعَة، ولا عَودَة بَعدها، بعد أَنْ طَارت نفخة الورقة “السوداء” بتَثاقُلٍ ثَملٍ، لِتَستقِر، بنَفرَة وحَسرَة، في جَوف صُندوق البَريد المُهمَل بساقه الشاخصة على ناصية الشارع؛ وقد انطلقت وَرقة الفراق المُقلِق كالسهم المارِق، مِن عُقر مَخدع رَفيقة عُمر الأْستاذ ” الحبيبة الأنيقة ” على حَدِّ تعبيره، لِتَستَقر بقريتها بأَلمانيا… بعد أَنْ اختارت قرار الانفصال، وغَادرت بأَدراجها المُهروِلة إِِلى مَسقَط رأسِها… هَكذا يَروي صَاحِب القصة الحَزينة بتفاصَيلِها المؤلِمة، والتي نَالنِي مِنها أَلم وجداني مُماثل، وأَنا أَقرأ، شَذَرات مِن جَوهَر فيض مَشاعِره المُتكدِّرة، وأَتفحَّص جَانبًا حَساسًا مِن عُمق أَحاسيسه العَطشَى، عَن كَثب، وأُعايِش برفقٍ، خَفِيٍ غَبَاشَة تَعَاسته “الثكلى”… بين هُزات رأْسه المُتكَلَّفة، وعَبرات غُصَّة ذِكريات حَبيسة مُريبة، تَكاد تَخنُقه في حِينها… وكُنت أُسَلِيه برَويةٍ وتَؤدَة، بين الفينة والأُخرى، بعبارات الأَمل الواعد؛ وأُلاطِفه بمُواساة سِلاح البطَل المُكافح… وأطِيل احتِساء فِنجان القهوة بين يَديه؛ وأسَابِق النظر بين حَاجِبيه، وأُتابع استراق تغير مَلامِح وأَمَارَات تَجاعِيد وجَهه؛ أَملًا بالظفر بتَنهِيدة استرخاء؛ ورَغبة باستردادِ شَهقَة نَفسٍ، تُعيد لَه وَمضَة سُكون حَازمَة … مُقدِّرًا ومُثمِّنًا، في الوقت ذاته، سَوِيَّة وطَوَيَّة مُسلْسلَة المَشاعر الوجدانية الإِنسانية المُشتركة، وإِن اختلفت بَينهم شُقة في صُفوف الأَعرَاق؛ وتعدَّدت بين أَوسَاطِهم لَكنة في لَفيف الأَجنَاس؛ وتَنوعت أَنماطهما المتباينة بَين ظَهرانِي الأْصول البشرية…!؟

هذا وفي وَقفات زيارات مُتجددة مُمَاثلة، كُنت أَصطحِب مَعي طبق طعامٍ مُتواضِعٍ مِن إِعداد الزوجة؛ لأَتناوَله بمَعية أْستاذي، في شُرفَة مُشرِقَة، في الهواء الطلق؛ ليُمتِّعنِي بأرق أَحادِيثه الرائعة، ويُتحِفنِي برائق ذِكرَياته الشائقة، وأَكسب مَورِدًا خَصبًا لنمو، وتدوير، وصَقل، واكتساب، لُغتي الإِنجليزية؛ ومِثلها تَوسِيع دَائرة مَعارفِي الاجتماعية، في وقتٍ سَنوات الزمن الجَميل… وكتيرًا مَا أُصادِف الأستاذ، وقِد ارتدى مَريلتَة، وأَمسَك بأَزميلِه؛ وأَحكّمَ نضارته؛ ليُمارس إِحدى هِواياته المُفضَّلة… النحت على الصخر؛ وعند تَوغُلي صُدفة، داخل ببته، رأَيتُ قَفصًا حَديديًا يَحوي زَوجَين مِن “الهمستر” وهو حَيوان قارض ضارب إِلى السُّمرَة، أكبر من فأر المنزل البالغ قليلًا… وسَألت الأْستاذ مَرة عن سَبب وجُوده داخل مَنزله، فأجابني: بأَن القفص، ومَا بداخِلة مِن الحيوانات المُثيرة، قد أَعدَّه هَدية فاخِرة فارِهة لشقيقه، الذي يَسكن في قرية رِيفية نَائية، ويَعتزِم القيام برِحلة مَكُوكِية، لتوصيل الهدية له… ويا لَها مِن هَدية العُمر الثمينة المُفرِحَة، مِن شِغاف قلب شقيق إِلى سُويداء قلب شقيقه…!

هذا، ولَم أَمُر مُرُور الكِرام بأيقُونة “الهدية البهية” وتَجشم مَشاق مِشوار رحلة الطريق المُرتقبة؛ لحيوانات قارضَة، لا تَسر الناظر، ولا تُبهِج الخَاطر… ومَا مَقام حُضور الهمستر الضار الوخِيم في قائمة الأَولَويات الرئيسة بعد فراق، وغياب طَيف الزوجة الحَبيبة، وارتِحال الأنجال كل في طريق، في وِلاية بعيدة…!؟

وعلى خلفية هَذا المِنوال المُتناقِض المُتضارِب، تسأَلت كَثيرْا؛ وتأَملت مَليًا، وأَنا في مُقتَبلِ العمر… كَيف يَهنأ المَقام المُتنافِر للإنسان المُتحضِّر بأَنْ يُنعم النظر؛ ويُبهج الخاطر في التلذُّذ المُبرمَح، وإدامَة مُتعة “العناية والرعاية” لقَوارِض سَوداء نتِنة داخل بيته؛ لِتَستولِي على مَركز اهتمامه، وتَستحوِذ سَحنتها المُقزِّزة على فَائق عِنايته اليومية؛ ويَحلُو له برنامح النوم المُتجَدَّد. في الوقت ذاته، وإِسناد كُتلة رأسه، وَحيدُا فَريدًا، فَوق وِسَادة قديمة وثيرة، كان يهنأ مُدللًا مُغنجًا، في غَمرِ سُرادِقٍ رَحبٍ في عِشق الحبيبة؛ ويَسْتَل- بشَكِيمة وعَزِيمة- نَصل نُعومة رِيشة أَحلامه المُلونة، في جُنح كل ليلة؛ ليضيف جُزءًا فِنيًا مَستورًا، لم تظهر مَلامِحه التشكيلية شَاخِصةً مُكتمِلةً، في خِضم عَنان سَماء رَسم، وإِحياء، واستنطاق فُصول أْسطُورة فُسَيْفِسَاء “جِدارية العمر” الإِبداعِية، قبل زَحمة العُبُور المُرتَقب، فوق قَنطرة فاصِلة، قَد لا يَعلَم حَقيقة كُنهِها، ولا يَعرِف- جَوهَر ومَخبَر- مَقام دَاخِلة مُلابَساتِها المَستُورَة الغامِضة… وللناس فيمَا يَعشقُونه مَذاهِب؛ وفيما يَهوَونه مَشارِب… أَسأل الله، لي وللقارئ الكريم، إِحراز مَواهِب العَفو والعَافية السَّنِية، في مَقام الدنيا؛ وجَني مَواكِب النعِيم المُقِيم الجليلة، في فَسَاحة سِدرَة مَأْوَى الآخِرة، وبالله التوفيق!



error: المحتوي محمي