
وهي تنظر إلى عينيّ ياسمين، عبر انحناءة، لتُقدم لها كوبًا من القهوة الفرنسية، الذي طلبت أن تُعده لها، خاطبتها:
ما تخصصكِ؟
تُجيبها:
لقد دخلت قسم اللّغة العربية.
ولماذا اللّغة العربية تحديدًا؟ تتعمق أكثر في السُؤال!
تُوضح ياسمين:
لأنّي أعشق الأبجدية، إنَّها تسكن ذاتي، أهيم فيها، لأشتاق إلى البوح، أكتبني في قرطاسها في مُختلف الفنون الأدبية، ليست كلها، ولكن أغلبها، فإذا اجتمع العشق، والمُمارسة، فإنَّ الإنسان، يجتهد، ويسعى إلى التّطور، لتزدهر أدواته، يقرأ، يقُوم باتباع ثقافة التّعلم الذّاتي، ليكون على معرفة تامة بتفاصيل ما يُريد، ليستطيع التّعبير عن ذاته، أفكاره، وتطلعاته.
الكتابة بالنّسبة لي يا حنان تجيء مُتنفسًا لي؛ لأعيش اللّحظة بحُزنها، فرحها، لأسطر أفكاري، وما يلج في خاطري على بياض القرطاس، والمُساهمة بشكل فعال في خدمة المُجتمع، والرّقي به إلى القمم الشّماء، والتّميز.
ترمقها بإعجاب!
ما شاء الله، تُعجبني نظرتك المُتعمقة للحياة، للأشياء جمالية في عالمك، كهُدوء عينيك، يبدو أنّي سأغرم بكِ، لتكوني قدوتي. تُشاغبها حنان بلطف.
احمّرت وجنتا ياسمين، ومن فوضى الحواس بداخلها، ابتسمت، وأعادت عليها طرح سُؤالها الأول:
وأنتِ، ما تخصصكِ؟
تُجيبها:
تربية فنية.
ولماذا التّربية الفنية تحديدًا؟ تُعيد عليها سُؤالها الثاني بزهو!
تُبين حنان.
كما تعشقين الأبجدية، بي العشق ذاته للرّيشة، للألوان، لأعبر من خلالهما عن ذاتيّ، ومشاعري، أفكاري، تطلعاتي، لأغرق في الألوان، حُدود الشيء، واللاشيء، الصُورة المُتخيلة في الذّهن، البعيدة عن الحسّ، القريبة من التيه، اللايقظة، لأغرسني في لوحتيّ، وأظلني، كرائحة المسافات، تنسج بي تفاصيل لوحتي، التي تركتها في مُنتصف الطّريق، لأكمل الطّريق، لذا اخترته، لأجد ذاتيّ الضّائعة مني في داخلي، سعيًا في تطوير إمكانياتي، وأرسم ما يشبهني، وأترك الآخرين، أن يكتشفوا ما يشبههم في لوحاتي، الكل يبحث عن ذاته في ذات الآخرين، فهل أقرب من الفنون بأغصانها المُختلفة، أن تُعرفنا بهم، وتأخذ لنا موعد لقاء، قد يأتي سريعًا، وقد يطُل انتظاره، وقد لا يأتي، لنظل نترقبه.
تُداعبها ياسمين بلمس أصابعها في حنان!
ألا تجدين أنَّ أفكارنا مُتناغمة؟!
تُبادلها المُداعبة بقرص خدها.
هذا صحيح، ولا أخفي عليك ليس في الأفكار فقط، ولكنّي في انجذاب رُوحي إلى ضفتيكِ، مُنذ أن أبصرتكِ في الحافة، إلى امتداد حديثنا في ساحها، ليزداد، واحتواني أكثر في هذه اللّحظة.
تُوافقها ياسمين!
نعم، نفسه الانجذاب، أدخلني في ذاتكِ، لتُغرقيني بحنانكِ، فكركِ، الهُدوء في ملامحك، التي تُعبر عن جمالية رُوحك، عن حسّكِ المُرهف في خُروج الكلمات من شفتيكِ، لأراني الدّهشة أنسجها في عينيكِ الدّافئتين، وأرشف منها جميل ما تُبصره، إنَّ الاستئناس حالة طبيعية، من يشبهنا، نشتاق إليه، كشوقنا إلى ذواتنا.
دقّ جرس الشّقة، ذهبت ياسمين لفتح الباب، وإذا بأربع طالبات رحبن، دعتهنّ إلى الدّخول بكلماتها الحنونة، مُرحبة بهنَّ.
استقبلتهنَّ حنان بابتسامتها الهادئة، جلسنَّ على الأريكة، ووضعن حقائبهنَّ جانبًا، وبدأت مراسم التّعرّف؛ الجالسة على يمين حنان ذات العينين الواسعتين التي لاتزال ملامحها يعتريها الخجل والارتباك هي فاتن، التي اختارت تخصص التّربية الفنية.
شاغبتها حنان، وتداعبها بنظراتها، لتُخرجها من دائرة القلق والارتباك، وقالت: إذًا أنت وأنا في نفس التّخصص، شيء سعيد جدًا.
طلبت ياسمين من حنان وقف حفلة التّعارف، بينما تنتهي من إعداد القهوة، التي تُعدها بطريقتها اللّذيذة، التي لا يستغني عنها والدها كلّ صباح نديّ، وكلّ مساء بهيّ النّسمات.
في المطبخ، لا تدري؛ كيف لهذه الرّائحة أن تتسرب إلى الجالسات في الصّالة، مما أشعل الرّغبة في ارتشافها.
تنظر ياسمين إلى كلّ عمل تقُوم به على أنَّه تُفة فنية، تُمار أصابعها نسجه في أبهى حُلة، وضعت القهوة على الجانب الأيسر من الصّينية الخاصة، التي أحضرتها معها، وبجانبها وضعت بعض الحلى الراقي، لتأخذك إلى روعة التّنسيق، فلا تجذبك رائحة القهوة، ورغوتها، ولكن هذه الأكواب، والحلى، وتنسيقها، يُغريك جدًا، الآن، ياسمين تنحني، لتضع الصّينية على الطّاولة، وتطلب من حنان إكمال حفلة التّعارف، وهي تسكب القهوة لهنَّ.
الجالسة على يسار حنان هي أريج، التي اختارت تخصص الإدارة، للوهلة الأولى عندما تُبصرها تجد فيها الأنثى المُتكلفة في التّعامل كأنَّها من طبقة أخرى، تتعمد الحديث بفوقية، ونظراتها، تشي بالغُرور، والتي أمامها هي سارة، التي اختارت تخصص الرّياضيات، المنطوية على ذاتها، كأنَّها تحسب لكلّ شيء حسابه، حتى الهواء الدّاخل للرئتين له حسابه في عقلها، مهووسة بالأرقام، هي!
وكانت عبير، التي تجلس في مُقابل حنان، طالبة بقسم اللّغة العربية، الفتاة الهادئة البريئة في ملامحها، التي تمتلك نظرة ثاقبة. هذا ما شعرت به ياسمين، وهي تُحدق في عينيها.
خاطبتها:
حبيبتي عبير، أنت وأنا نفس التّخصص، سنكون صديقتين إذًا، هل تُوافقين؟ سألتها وهي سعيدة بها.
تُجيبها:
هذا يُسعدني، ولي الشّرف بمعرفتك، والاستفادة من وجُودنا هنا، لنستغل ذلك بأفضل ما يكون.
الشّقة، تحتضن في زواياها ثلاث غُرف، اتفقت حنان مع ياسمين أن تكونا في غُرفة، واختارت كلّ واحدة منهنَّ من تكون معها، ليدخلنَّ كل إلى غُرفتها، لتقُوم بترتيب أغراضها، وتنفض عنها غبار السّفر، فانتظمت الأمور في اللّيلة الأولى من اللّقاء.
قضت حنان وياسمين اللّيل فيما يُشبه التّأمل في الجمال، في انتعاش الرّوح في لمس أوجها اطمئنانًا، أحيانًا تجمعك بأحدهم أوقات قصيرة، تأتي عُمرًا من العلاقة، تقرأ السرّ في لغة العيون عبر دهشة الفكر. تهمس ياسمين في أذنيّ حنان على نغم الضّوء الخافت، وكثير من الظّلام، ليتناغم مع الكلمات.