يَصدُرُ ويُسمَعُ صَوت الإنسَان عَادة، مِن انقِباض وانبِساط الأَحبَال الصوتِية المرِنة، بصُورةِ مَوجَات صَوتية، يَحمِلها الهواء إِلى طَبلَة الأَُذُن؛ لتُحرِّك ثَلاث عُظيمات رَئيسَةٍ هي: المِطرَقة والسِندَان الرِّكَاب؛ ليَتم تَحوِيلها، في حِينها، إِلى مَوجَات كَهربائية، ثم تُرسَل تِباعًا، إِلى مَراكز عُليا في قَاع الدمَاغ، بسُرعة خَاطفة؛ عَبر مَجَاس عَصَبية مِن مُرسِلات ومُستقبِلات شَبكة الأَعصَاب السمعِية؛ لتَتم هناك عَملية إِرسالِها و”فلترتِها” وفَكِّ مُحتوى شَفراتِها، وتَحلِيلِ مَرامِيها؛ ثُم إعادة إِرسالها بشكلٍ فَوري إِلى شبكة الأَعصاب المُتيقظة… فسُبحان الله الخالق العظيم، البَديع المُبدع، الخَلاَّق العَليم… الذي مَيَّز الإنسان بأَدَّق فلاتِر تَصفِية؛ وأَعجَب أَجهزة تَنقِية مُعقَّدة في عَملِها “الروتِيني” مُيسَّرة في مَهامِّها السلِسة الباهِرة… ولاَ غَرَابة، فالمَوجات الصوتية، يَتم فك شَفرتها، وقِراءة مُحتواها ببسَاطَةٍ وسُهولةٍ مُذهِلتَين… هذا، وعِند استلام مَوجات مُمَاثِلة، مِن لُغة غيرِ الناطِقين بلُغتِنا لحظة، فإِن حَواجِز ومَصدَّات قاتِمة مُعتِمة تَعُوق، دُون فَكٍ ناجِح، أَوفَسحٍ ناجِعٍ، لسيلٍ مُنهَمرٍ مِن هَدرٍ شاطِحٍ مِدرَارٍ مِن الشفرات المُتدفِقة، والتي تَبدو سَلاسة انبعاثها؛ وسُهولة انبثاثها؛ وبَديهية استلامها، بسُرعةٍ خاطفةٍ؛ لتتسَاقط وتتهَاوى عِند حَاجز الفلترة المَنِيع … وهَذا مَا يُميز لُغة الأجناس البشرية، بين شُعوب وقَبائل؛ وفي ذلك سِرٌ رَباني مَكينٌ، وحِكمة بالِغة عَظيمة، قد أَودَعهما الله، جَلت قًدرته، وعَلا شأنه، كفَوَارِق وطَرَائِق مُمَيِّزة بين سَائر بَني البشر …
وعَلاوة على تلك الفَوارِق المُحسُوسة، والاختِلافات المَلمُوسَة، تبقى أَمَارَات نَبِرة الصوت البشرى المُستلمة مُمَيزة ومَحفوظة في مَكنُون حَافِظة الذاكرة… والأَدهَى مِن ذلك الحَدَث المُثيز المُتكرر، أَنَّ خَلايا الدمَاغ البشري المُرهَفة بإِمكانِها استِعادة وتذكُّر حَدَثًا مَا، بالصوت المُميز، والصورةِ المُحدَّدَة، والمَكانِ المَعرُوف، والزَمانِ المَوصُوف… ولعلَّ لَفيفًا مِن أَصغر تفاصِيل بِنائية أُخرى َدَقيقة، تُرافق ذلك الحدَث الحَادِث، والأَمر الصادِح؛ وتطبيقًا حَيًا لتلك الإِفادَة العلمية، ما زِلت أتذكر- بكامل أَهلِيتِي العقلية- مَوقِفًا طُفولِيًا، عِندما كُنت مَا بَين الثالثة والرابعة مِن عُمري؛ وقد حَدَث ذلك في فصل الصيف، وتَحدِيدًا، في الدور الثالث في مَنزلنا التقليدي بقلعة تاروت العَريقة، وفي وَقت الغُروب، كُنت وَقتَها ألهُو كَبقية الأَطفال؛ وكنت أقوم بحَركةٍ غير مُرضِيةٍ لجَدتي، رَحِمها الله تعالى برحمته الواسِعة، أثناء مُرورِها بالمكان… وإذا بِها تنهَرنِي بعبارةِ نهيٍ وزجرٍ… ومَازلت أَتذكر صَدى ومَدى دِيباجتِها الرنانَة، حَتى هذِه اللحظة الراهِنة: بمَكانِها وزَمانِها، وطَريقةِ إخراجها… وتَقاسِيم وَجه الجَدة، وحِدَّة نَبِرة صَوتها الأَجَش، وأَثَر جَلجَلة تلك “الصيحَة” المُدوِّية في عُقر دَاخِلة نَفسي، والمَصحُوبة بعبارةٍ خاطفةٍ… وأَتذكر مَوقفًا مُماثِلًا آخَرًا، مَا تَزال كَبسولة أثَر نَبضه مَطبوعةً، تَدق في سَماء ناقُوس ذاكرتي… عِندما كُنت أَدرِس “كورسًا” دِراسِيًا في عِلم الإِدارة، في قُبيل مُنتصَف الثمانينيات المِيلادية، مِن القرن المُنصرِم، في جَامعة “تورث تكساس” الأَمريكية الحكومية، حَيث كانت هناك مُحاضرة أسبوعِية تَستغرقُ زَمنًا، يَربُو على الثلات سَاعات مُتتالية، في لِقاءٍ أُسبُوعِي واحدٍ، بقاعة مُكتظة بالطلاب والطالبات مِن مُختلف الجِنسيات… ولحُسنِ الحظِ، كان الأُستاذ، والمحاضِر القدِير يتمتع ببراعة وإِجَادَة مُتفردتَين، في عَرض وتَقديم بُنود مُحاضرته الشائقة… في تَنوعٍ مُمَيز، وتَباينٍ مُحفر بنَبراتٍ صَوتيةُ ذَاتيةٍ، وأِمثلةٍ مُصاحِبةٍ جَوهَريةٍ؛ عَلاوَة على مَا يَتمتع به مِن إتقانه الظاهر لِمهارة فَن “فبرَكة” واستقطاب، واصطياد الدُّعابة اللحظية المُميزة، التي يُفرقِعها عَفويًا، بين الفَينة والأْخرى؛ لإِضفاء حَالةٍ مِن الاسترخاء المؤقت، في أَجواء القاعة؛ ليُتابع مُحاضرتة، بمزيدٍ مَن النشاط والحيوية؛ وكذلك وانتهاجه لأسَاليبَ تَرويحيةٍ أْخرى، كالمَرحِ، وخِفَّة الحَركة… مِمَّا يَجعل طُول سَير وزَمن المحاضرة يَمرَّان بيُسرٍ وسُهولةٍ سَلسَتَين، وَسط أَجواء القاعة المُكتظة بالدارسِين…!
ولّعلَّ رِقة الصوت المَسمُوع بحَلاوَتِه، والمَحفُوف بطَلاوَتِه، تَتجلى إِمتاعًا مَاثِلًا، في أَرقَى التِّلاوَات المُجَوَّدَة المُرتَّلَة مِن آي الذكر الحَكيم؛ ومَا تَحمِله نَفَحاتها الجَليلة مِن عُلو المَعاني الربانية السامِية؛ وما تَحوِيه مِن فَيضِ الدلالات الروحية الراقِية… مَا تَتطرِب لها الآذان الصاغِية لَذَّة؛ وتَسمُو بِسماعها النفس المُطمئِنة طَواعِيةً؛ ويَعلُو ببلاغَتها الفِكر المُستنِير رِفعَةً؛ ويُهذِّب ذَائقة الأَخلاق السامِقة إَجلالًا؛ ويُربِّي تَجلِّيةَ زِمام السلُوك السوَي عَظمةً… وكذلك الأَدعِية الروحانية المَأثورَة، كَمِنهاج أَدعِية الصحِيفة السجادية، للإِمَام زين العابدين، عليه وآبائه، وأَبنائه أَفضل التحَايا، وأَزكَى التسليم.
وهُناك اَصواتٌ تَصدرها الكائنات الحية، كالطيور الداجِنة والطلِيقَة؛ والحيوانات البَرية المُتوحِّشة… فالبلابلُ، والعنادلُ، وطُيور الكَناري مَثلًا، لَها نُعومَة مِن النبرات الصوتِية الرخِيمة الرقيقة؛ وعلى عَكس نَقيضِاتُها مِن ذَوي الأصوات المُنكَرَة المُقزِّزَة… كالحمِير، والطيور الكَواسِر !
وفي مَواقف مُبتَذَلة غّتَّة ناشِزة، يَتطلب التعامُل مَع رُكام صّخَب الأَصوات البشرية الهائجة، بمَغبَّة النسيان، وضَبط النفس، ورَبَاطة الجَأْش؛ وتُجَابَة ازدِرَاءً، بالاحتِقار، والجُحُود، والنكرَان، ألا وَهي رَفع وتصعِيد جَلبَة الأصوات المُنفعِلة في مَجالِس الذِّكر؛ وفي اشتدَاد أَمَد الخِلافات الشائكة؛ واحتدَاد مَبلَغِ المُناوَشات الطاحِنة، التي لا طَائلَة مِنها، ولا فَائدَة، ومَا يرافِقها، عَبثًا وتَشويشًا، مِن هَرْجِ ومَرْجِ، وطَعنٍ ولَعنٍ، وقَذفٍ وقَذعٍ، وحِقدٍِِ وحَنقٍ، وضَغينةٍ وإِيغارٍ الصدُور… ومَا كان العقلُ المُستنيرُ، والمَنطقُ السليمُ ليَقُرَّا شأنًا سَويًا قَوِيمًا، ويُبرِمَا أَمرًا أَخلاقِيًا حَمِيدًا إِلَّا وتُصبِح عَاقبتُهما هَديًا ظاهرًا؛ ويُمسِي مُنتهاهُما بخير مَكسَبٍ؛ ويَؤُول مَآلهما بنضارَة مَظَهر؛ وتَعُود خَاتِمتهما بطِيب مَخبَر… ومَا النصرُ إِلّاِّ مِن عِندِ اللهِ العَزِيزِ الحَكِيم.