أمي من فريق الأطرش «21»

تنحدر الشمس غربًا وصخب السوق يتصاعد عصرًا، أصوات الباعة مواويل مسائية، تتقاطع وتتداخل بجر الكلمات ومطها، “خذ الزين لو غلاك الدين”، “قرب يا وليد قرب، اللوبة الساخن قبل الليل، گرگش يا وليد “، “يامال يابلاش ضرب السچين”، مناداة على أطراف حمام تاروت قلب السوق، مساحة تضيق وتتسع للمتبضعين ورجال”الگواري” بحميرهم الناقلة للأوادم والأغراض من وإلى القطيف، يعبرون خليج تاروت “كيتوس” أثناء جزر البحر، حيث جزيرة تاروت معزولة عن يابسة شبه الجزيرة العربية. القادم والذاهب للقطيف كأنه واصل من سفر، وهذا حال الشاب محمد مكي شلي العائد من رحيمة بالسيارة للقطيف، ثم صعودًا على متن “الگواري” الآتية للجزيرة، حط رحله وسط سوق تاروت، التقاه صدفة الملا عيسى بن عباس فأبلغه رسالة الرجال الثلاثة الذين ذهبوا ولم يحظوا بلقائه، حسن النوايا تكللت إيجابًا بالسماح لزوجته أن تذهب للحج، افترق الاثنان بسلام توديع ومحبة أخوية، أخذ الشاب يردد “يسهل الله أحسن التدبير”، مكثرًا من كلمات الحمد والشكر وهو يتخطى بين دكاكين السوق المزدحمة بالمارة والباعة والمشترين والدلالين والمتجولين والعابرين والعابرات هي السوق الوحيدة لكل أبناء الجزيرة وهمزة وصل بين المناطق، تعد مركز التقاء وتبضع لكل من سكان دارين والربيعية والسنابس والزور، وعلى أثر ذلك تسمع لهجات متعددة، وترى سحنات ووجوه منوعة، السوق مكان جذب للبحارة القادمين من دول الخليج لرمي أجسامهم المتعبة في مياه حمام تاروت الممتد كما النهر، يتفرع لروافد صغيرة “مساقي” لري البساتين، ماؤه حار شتاء وبارد صيفًا، وعلى عتبات جروفه الصخرية تدليك الأبدان بالخشوف وليف النخيل، وثمة كائنات مائية “الحراسين” تبحث عن جرح “غشاية” مفتوحة في الأجساد المستحمة لتتغذى عليها “تبليحًا وتنقيدًا”، وهي توصية يتناقلها البحارة بهدف العلاج من “صواب” أو تقرح جلدي، ويكتمل الاستجمام على وقع ارتشاف استكانات الشاي في المقاهي الشعبية.

الشاب محمد يتخطى فضاء السوق و”صكيكه المسگوفة”، هذا يصافحه وذاك يسلم عليه، وآخر يحييه، وقريب يسأل عن أحواله، ترحاب كما الاستقبال نتيجة غيابه عن بلدته لمدة أسبوع فيلقى مزيدًا من التحايا والسلامات. ومن هنا تحركه يكون متقطعًا كأنه سائح في السوق يتفقد الوجوه الباسمة، إذ لا مناص من رد التحايا بأحسن منها، تواشج أنفس الطيبة صافية كتدافع مياه الحمام، سلوك مشاع بين أفراد المجتمع بمختلف طبقاته ومناطقه، السوق ملتقى اجتماعي بامتياز.

الشاب محمد تقوده رجلاه نحو دكان الحاج عبدالله الشكر (أو عبدالرسول التاروتي) لشراء قطعة قماش، تم “التمتير بالذراع” قص له من “الطاقة” ذات اللون السكري، تكفي لمقاس امرأة واحدة، طوى القطعة ووضعها تحت إبطيه وصعد بها للديرة.

دخل البيت تسبقه نحنحة معتادة، “أُحُّه يا الله.. يا الله” وترد عليه زوجة أخيه السيدة نجيبة ووالدتها أم سيد أمين الشبركة “طلعك الله”. أبصرته زوجته مريم وهو يضع قطعة القماش على “محجر الشمسة” وبجوراها صندق “طروح” ثم خرج لأداء صلاة المغرب في مسجد “الشيخ علي” ذي الطراز المعماري المميز بالأقواس والأعمدة المنتصبة.

نادت مريم زوجة حميها، “تعالي تعالي يا أم الميرزا شوفي ترى هذه قطعة احرامي جابه لي حميش الحين، سوا صلوات، الحمد لله وافق رجلي على روحتي للحج، الحين بعطيش المكتوب يا سيده “. فصلت حرامها عند أم أحمد المبشر، إحدى سكان منطقة الخارجية، جربت اللباس ورأت حالها في مرايا غرفتها، اطمأنت للمقاس بحراك من الجدار للجدار.

وأتى اليوم الموعود الذهاب للحج، نقطة التجمع والانطلاق من بيت خالها حجي حسن زرع بفريق الأطرش، وبعد الزوال صعد أحد المؤمنين سطح المنزل وأذن “الله أكبر.. الله أكبر”، نداءات متقاربة في وقت متقارب تنبعث من عدة منازل، إعلانًا بأن أهل هذا البيت أو بعضًا من أفراده سيتوجهون لأداء مناسك حج هذا العام، عادة حسنة استهلالًا بالتوكل على الله.

اصطف “القطاعة” بحميرهم و”الگواري” وسط فريق الأطرش، وصعد المسافرون من نساء ورجال مع الحقائب وهي عبارة عن صناديق معدنية معبأة بالأغراض والملابس الشخصية، يرابعهم نفر من الأهل والأقارب والأصدقاء. وعند “برودة” -الجزء الشرقي من الدخل المحدود- تدور لحظات التوديع قبل خوض البحر، احتضان وذرف دموع، لم يكف حجي حسن أبوحبيب الدقدوق أحد المرابعين، طوال الدرب عن البكاء وهو يجر الآهات متلونة بالحسرات: “السلام عليكم يا أئمة البقيع، السلام عليكم يا أئمة البقيع! يا حجاجنا لا تنسونا من الدعاء” يمسح دموعه بأطراف غترته وهو يتنهد بامتداد البحر الفاصل بين يابستين.

وصلت الگواري وطرحت حمولتها من بشر وأمتعة، وسط القطيف، مكان انطلاق سيارات رحلات الحج، وعند التجمع نادى صاحب الحملة الحاج عيسى الدار على الأسماء أمام باب سيارة تلو الأخرى لركوب المسافرين والتحقق من أعدادهم. خصص باص باسم أهالي تاروت سواقه من مكة اسمهم فيصل، وحين أتى دورهم نودي عليهم فردًا فردًا، صعدت مريم آل هبوب برفقة والدتها ليلى آل زرع وزوجها محمد حسين آل سالم أبوجاسم زوج أمها، وخالها حجي حسن آل زرع وزوجته مشيقرية، وابنتهما خديجة وزوجها جاسم حسن الصادق، وعلي وأخته فاطمة أبناء خالها حجي عبدالله آل زرع، تسعة أشخاص من عائلة واحدة أطلق عليهم عند المناداة عائلة آل زرع، لكن السيارة ضمت عوائل أخرى من فريق الأطرش، محمد علي آل سالم وزوجته وزوجة خاله الشاوش، وعبدالله تراب وزوجته، وعبدالله المضوي وزوجته، ومن الخارجية آل سليم وزوجته، ومن أرض الجبل المرشد ملا عيسى بن عباس وبنته وولده وزوجة الولد، وحجي جاسم القديحي، ومن الديرة أبو عبدالغفور الشيوخ وزوجته، وعلي المصلي ووالدته وأخته وزوجته، ومن الربيعية امرأتان من عائلة المسجن وأخرى القديحي، ومن السنابس امراة من عائلة أبوحسين. -ثمة أسماء أخرى سقطت من الذاكرة- بلغ مجموع عدد ركاب حافلة تاروت 25 رجلًا و22 امرأة.

وقبل تحرك القافلة بلحظات حدث ما لم يكن في الحسبان صعد رجل للحافلة كان فقط “مرابعًا” لزوجته الذاهبة للحج وسحبها نزولًا، يدعى “سيد…”، معترضًا على ذهاب زوجته بمفردها متوعدًا ومزمجرًا، “يا أنا أروح وياها يا ما تروح وياكم، علبالكم هرجة، هي تروح أنا أروح، إذا أنا ما روح هي ما تروح تنزل ويا خمتها وترجع للبيت، ما علي منكم”، وهو قابض بيده على معصميها يسحبها نزولًا من الحافلة، لكي لا تفلت منه لا يمينًا ولا شمالًا، وترد عليه زوجته “هدني گبعت إيدي، داني وياك ما بينحاش بي الباص”!

أحد الركاب أخذته الرأفة والعتب “يا سيد اشوي شوي على أهلك، واتكلم عدال، الناس يطالعوك، ليش ما قيدت اسمك ويا زوجتك من قبل، الحين حزة الحزة تبغى تروح”! احتار صاحب الحملة في الموقف الطارئ، لكن بحنكته تمت تسوية الأمر بقبوله مسافرًا في الوقت الضائع. سار الركب بالتوكل على الله عصر يوم الأربعاء 15 من شهر ذي القعدة 1379 هجرية – الموافق 1959م، بعدد 3 أوتوبيسات و4 سيارات كشف واحدة منها مخصصة للمؤنة مع أدوات ولوازم الطبخ وأغراض وعفش وخيام، وكل حافلة تضم بين 47 أو 48 أو 50 راكبًا تقريبًا، وعلى رأس الحملة سماحة الشيخ فرج العمران.

طوت السيارات مسافة تقارب الثلاث ساعات. أول محطة وقفت فيها القافلة “بر الأحساء”، لتأدية الصلاة وتناول وجبة العشاء. روح التعاون حاضرة بحماس، والنفوس ممزوجة بالتفاؤل والشوق والتطلع والخوف والقلق والحذر، ثمة تباين في المشاعر نتيجة تكرار رئيس الحملة جملة تطرق المسامع طرقًا: “يا مؤمنين كلكم عندكم إحراماتكم، وجبتم وياكم السدر والكافور”، ويردفها بعبارة ملؤها الثقة والاطمئنان “ما ناقصنكم شيء”.

وقبل التحرك يتفقد مع معاونوه أعداد ركاب كل سيارة. دوي صوت المحرك يطغى على “السوالف” العامة والأحاديث الجانبية.

خطة سير الحملة
من وقت دلوك الشمس وطوال الليل وعند الضحى يتم التوقف نهائيًا، وحسب السائقين، “المكائن لا تتحمل لهيب حرارة الجو”، أغلب ساعات النهار الركون جانبًا في البر المقفر ويطلق على حالة التوقف “هيدوا الحجاج”. أغلب محطات الدرب جلوس في العراء وافتراش رمال الصحراء اللاهبة، تظللهم خيامهم التي تنصب في كل محطة وعند الاضطجاع رأس الرجل بالرجل، وعند خيمة النساء بالمثل، حيث لا وجود للاستراحات نهائيًا، ويتناول شرب الماء حارًا من “مطارات قماشية” متدلية خلف كل سيارة فالموسم صيفًا وقت نضوج الرطب.

سألت مريم والدتها: “أماه ليش السدر والكافور” ردت عليها: “يا بنتي الذاهب للحج ما يدري ويش يجرى عليه يمكن ينزل عليه أمر الله، إلا هذا تغسيله جاهز ولحرام كفنه”، رفعت الأم يديها وهي تدعو “إلهي بالسلامة في الروحة والجاية”.

تطوي سيارات حملة عيسى الدار مسافات من البراري القفار، وتقطع صحاري تلو الصحاري الجرداء، رمال ألوانها متقلبة حسب المناطق بين بيجيات وبرتقاليات فاتحة إلى غامقة تصل للاحمرار يقال عنها ذهبية. هدأت سيارات الحملة من سرعتها، راحة جديدة، صلاة وغداء في بلدة “رماح” مكوث نهار الجمعة، وخلال الجلوس الطويل قدمت أولى الدروس العملية من قبل الشيخ فرج العمران والمرشد ملا عيسى آل عباس يساعدعم بعض العارفين حول طريقة الوضوء وكيفية الصلاة على أسس صحيحة. وفي المقابل صوب النساء تعلمهن بنت علي حسن سلمان زوجة حجي جاسم القديحي ومشيقرية أم محمد حسن زرع، تطبيقات في كيفية قراءة سورتي الحمد والإخلاص وشيء من مناسك الحج وكيفية الطواف، وقبل التحرك أتى صبية عندهم سلال ملئية بالجراد المشوي، تم الشراء والتهمته الأفواه تسلية كأنه أكلة مكسرات.

تحرك وقطع مسافات تلو المسافات بين هجر وقرى، ترى عند المغيب ومن لحظات بزوغ الفجر إلى تباشير الصباح. حطت القافلة في بلدة “مرات” بانتظار تأدية صلاة الظهر، شرعوا في الوضوء من عين ارتوازية كبيرة الحجم يتدفق ماؤها من فوهة أنبوب كما الشلال. وعلى وقع الخرير وضعت وجبة الغداء أرز مع صالونة لحم، وبعد أن ملئت البطون فرغت “القدور”، وفورًا تم التحضير لوجبة العشاء، أعدت طبخة مخصوصة؛ أرز محموص مع الروبيان المجفف، “أحلى” -مثل طريقة السمك المملح والمنشور في الشمس- وحين تم الانتهاء من الطبخ وعلى مشارف السادسة عصرًا تحركت القافلة في ود وسلام، وروح الأنس تسود الجميع بين ضحك وانشراح وحساب المسافات المتبقية من الذين أتوا للحج قبلا. الليل موحش والدرب خطر “شارع رايح جاي” والسيارات في ارتفاع ونزول، بسبب الهضاب والتفافات الطرق، تنسى تسلية مع هيمنة الأحاديث الجانبية، ثمة ركاب يتثاءبون، يغالبهم النعاس، يغطّون في النوم من جراء “هدادة السيارة” فيميلون برأسهم على من حوالهم، يوقظهم نداء “الله أكبر”.

بعد أن فرغ الجميع من أداء صلاة المغرب والعشاء كل ينتظر قدوم السيارة التي تحمل المؤمنة وقدور المحموص، لكن لم يجدوا لها أثرًا، غابت عن الأنظار، كل يرتجي ويمني النفس ساعة بعد ساعة، دار البحث عنها بين السيارات المتوقفة التابعة لحملات الحج الأخرى، وأي سيارة تركن جانبًا يهرولون نحوها مثل الأطفال يبحثون عن لعبة ضائعة، وعيون تصوب بصرها نحو اتجاه السيارات القادمة وأخرى للذاهبة، لكن من ذا الذي يرى في ظلمة الليل سيارة كشف عابرة، مضى الوقت حتى منتصف الليل، حينها دب اليأس وتحركت القافلة دون عشاء واستسلم الجميع للنوم إلا السائقين.

صباح يوم الأحد عاد الانتظار ثانية والأماني تتسع باتساع الصحراء لعل النهار يأتي بسيارة الطعام التائهة، لا شيء لاح في الأفق سوى التأفف والتململ، ومع حلول وجبة الظهر بدأ الجوع ينهش الأبدان نهشًا ويغير من نفسية حتى الهادئين، كل خرج عن طوره بتفاوت، تذمر ارتفعت وتيرته خصوصًا بعد أن تجاوز وقت تناول الوجبة الثالثة، الصابرين فقدوا صبرهم وحتى اللاهجين بذكر الله تغير مزاجهم، هل صحيح الجوع كافر؟

بدأت الألفاظ النابية تتساقط على رأس صاحب الحملة “عيسى الدار” مثل رش المطر، يرتبك في الرد ويتلعثم في الكلام، إنه في وضع لا يحسد عليه ويبرر الموقف الذي خرج عن سيطرته “ويش ذنبي أنا، أستحلفكم بالله أنا متعمد هذا الشيء، هذا أنا حالي حالكم، ما أدري هالسواق النحيس وين انتزع، هل صابه شيء، الله العالم”، ونال مرشد الحملة ملا عيسى بن عباس نصيبًا من كلام قاس بلوم وعتاب، ومع تصاعد الوقت دون نتيجة فلتت الأعصاب والجوع بلغ ذروته، تعلو عبارة “ماحنا مكلفين نبغى أكل، شوفوا لينا أي شيء ناكله، حتى لا نموت!”.

الوحيد الذي لم يفقد صبره من كل الركاب الشيخ فرج العمران وهو اسم على مسمى عمامته تاج علم ومعرفة وحلم، كل ينتظر الفرج، والصبر مفتاح الفرج. وأتى الفرج بشيء بسيط كومضة ضوء في ليل الصحراء البهيم، تم شراء “صفرية صمون” من مخبز متهالك، جدرانه متداعية، وزع الأكل؛ نصيب كل واحد متفاوت، البعض تحصّل على “صمونة” واحدة وآخرون نصف صمونة، لكن البعض امتنع عن أكل الصمون بحجة أنها مدهونة من جلد الأرانب، لكن حين قرص الجوع معدة الممتنعين هبوا لقضم الصمون مع بعض فردات تمر يابسة، مضغ وبلع وشكر، اعتبره البعض لا يسمن ولا يغني من جوع كأنها طقطقة حنك.

إن كان في منفعة بعدم الأكل لأربع وجبات خالية الوفاض، فقد أبعدت المحتاجين لقضاء الحاجة، حيث لا وجود للحمامات طوال الدرب الصحراوي الموحش، ومن يلبي نداء الطبيعة بالنسبة للرجال أخف وطأة، حيث يقضون حاجتهم عند مرتفع رملي يداري جسدهم خلفه أو حفرة تستر العورة، أما النساء فموقفهن صعب ومحرج، حيث تقوم مجموعة من النساء بعمل دائرة ممسكات أرديتهن بكفوفهن وهن واقفات ووجوههن لخارج الدائرة، طوق يحيط بالمرأة المستقضية لكي لا يراها أحد.

الإنسان في الأساس كائن بيولوجي يعود لحيوانيته الأولى، يأكل ويفرغ ما في جسده من فضلات، وإذا امتنع عن الطعام فغريزة البقاء تدفعه للتعدي والتكشير عن أنيابه مثل حياة الغاب، يبحث عن سد رمقه بأي شيء، يأكل ليعيش، وما أضيق العيش لولا فسحة الأمل، كل ركاب الحملة يخالجهم الأمل بين لحظة وأخرى، لكن أنين الجوع الجماعي حرض أحدهم بصوت حاد يكاد يزلزل صمت الصحراء “وتاليتها يا حجي عيسى الدار إحنا نموت من الجوع، البارحة ما تعشينا والصبح ما فطرنا واليوم ما تغدينا، وهذا العشاء الفاني بيروح علينا، أكلتنا من يوم السبت والحين ليلة الاثنين، هذي مي حالة، شوف لك سيارة وجيب لينا أي أكل لو من آخر الدنيا، ارحم بحالنا، ويانا ناس مرضى وكبار في السن ونسوان حمل”.

الوجوم واليأس يحفر في النفوس والجوع يضرب على الأجساد ضربًا بلا هوادة. كيف الإرادة تتنزل على المضربين عن الطعام لعدة أيام! يمر الوقت كئيبًا ورتيبًا، تململ كاتم على الصدور، وجوم مستطير، والوجوه شاحبة، على الرغم من تأزّم الموقف أصوات تلهج بالدعاء. عند مفترق طرق حين “هيدت الحملة” لأداء الصلاة، أحد سائقي الحملة لمح السيارة الضائعة، “دقات هرن بإيقاع متسارع” في الحال رجعت وأتت بأنوارها الساطعة، أبطأت من حركتها ووقفت بـ”مسكة فرامل” قوية، وإذا بالسائق التائه ينحدر منها مذهولًا متعبًا مما جرى له من حالة توهان وضياع سيارات الحملة، انقض عليه رجال غاضبون وعنّفوه بكلامٍ قاسٍ، معللًا موقفه بأنه جديد على الطريق لم يسبق له أن سار عليه من قبل. وآخرون من رجال الحملة الطباخون صعدوا سريعًا فوق سطح السيارة ممسكين بقدور الطبخ وما أن فتحوها إلا والأرز ذو رائحة عفنة لا تطاق، قلبت القدور وأفرغ الأرز المحموص الذي “خم” يومين ونصف اليوم، جهز العشاء عند منتصف الليل.

وسهل الله لهم وجود بئر يسيل ماؤها عبر مجرى رملي، ذهبوا ليأخذوا منها ماء “مروگ للطبخ”، وإذا برجال من بدو الصحراء مع قطيع جمالهم تمد رقابها نحو الماء، دار صراع واشتباك بين طباخي الحملة والبدو الرعاة، نحو أولوية أخذ الماء، هم يقولون جمالنا ستموت من العطش وطباخو الحملة يقولون: نحن لنا يومان لم نذق الأكل، جرت محاولة إبعاد بعض الجمال بالقوة عن البئر لكن دون فائدة، بالكاد أخذ الماء عنوة من بين أفواه سفن الصحراء. أضرمت النار منتصف الليل وعلقت القدور، وحين نضج كل شيء، تم وضع الأكل في الصحون الكبير والكل فاتح فاه، وهنا أستعير تعبير والدتي حرفيا “ما جينا بنأكل داك العشاء المچبوب إلا ريحته مال جمال، هس، أي هس، وكله متلچلچ على بعضه البعض، غزوز، غزوز، بس ويش نسوي قمنا نأكله من الجوع، أكلتنا من يوم السبت إلى الحين ليلة الاثنين ونص الليل، وفي الصباح سووا لينا سيويه “بلاليط” وبعد نفس الشيء اغزوز اغزوز، وكل غز هذي كباريته قد فبضة اليد، ما أدري چيفه من ويه، هو من طباخ العجلة، لو من الماء المدلخ اللي ريحته جمال، بس أكلناه ويش نسوي متنا جوع، الله رأف بحالنا، الحمد لله”.

وقبل التحرك لمواصلة الرحلة والتي اقتربت من محطة الوصول أجبر سائق المؤنة “المكاوي” أن يكون في وسط القافلة، سيارات من أمامه وأخرى خلفه لكي لا يتوه ثانية. تحركت القافلة في جو يسوده التسامح والتصالح، بفعل طعام أنعش الأجساد وهدأ النفوس، وتعزيز بمنطق عقلاني من لدن الشيخ فرج الذي جبر الخواطر وألّف بين القلوب المتشاحنة. تلال وهضاب تشير لعلامات الاقتراب، ومع إطلالة ضحى يوم الثلاثاء نسى الجميع كل متاعب الطريق الذي نال منهم ما نال لسبعة أيام دراماتيكية، بعد أن لاحت لهم مدينة الرسول بلآلئها المادية والروحية.

تذكار: 95% من الأسماء الذين ورد ذكرهم انتقلوا إلى رحمة الله.



error: المحتوي محمي