منذ مساء أمس الأول -هنا- لم أستطع كتابة سطر واحد، صرت -فقط- أتذكر الراحلين عني واحدًا واحدًا، وأتحدث إليهم بهموم ومخاوف وشعور باللحاق بهم؛ حتى نسيت أنني لا أهاب الموت.
لست أدّعي أنني أكثر إيغالًا في ألم الفقد من الغير، ولست أدعي التفوق في الحزن أكثر من غيري، لكني أواجه ضعف قدرتي على تحمل وجع فراق الأحباء، أتخيل المرحوم “أحمد” وإخوانه الذين كبروا بعيدًا عن والدتهم المرحومة بتول، والأماكن التي تغيرت، والوجوه التي شاخت، وكل المراحل الصعبة التي مروا بها، أصبحت رموزًا وذكرى لرحيل الأحباء.
حين مرض “أحمد” كنت أتواصل باستمرار مع خالته صباح، للاطمئنان عليه، وكنت أشفق على وجعه حتى ساءت حالته، شعرت بالقلق عليه، لقد تصورت بالأمس كيف كانت والدته المرحومة معه وإخوانه عندما كانوا صغارًا، واليوم تغيرت الأحوال وأصبحوا في عداد المرحومين! هذه هي حقيقة الحياة وحتميتها، فمتى سندرك أننا جميعا ضيوف فيها؟! ونحن نقف على خط من الأقدار التي تتأرجح بين الأمس واليوم، حيث لا صوت يعلو فوق صوت الحق.
وحين يخرج المرحوم “أحمد” من طوق عذاب اليتم منذ طفولته ويغادر الحياة، علي أن أقف متأملة تلك الأقدار السماوية بكل دلالاتها وتأويلاتها! باختصار عاش “أحمد” حياته داخلًا في متاهات ووجع يتم الأبوين ونار فقد شقيقه فواز؛ فالموت بكل دهشته ومصادفة التشابهات لا يمكن أن يكون إلا قطعة كاوية في قلبه، وعلى إثر ذلك أصيب بمرض القلب، ثم رحل أحمد موجوع القلب على الرغم من صغر سنه، ولحق بأحبائه ووالديه وشقيقه فواز الذي لا يزال جمال محياه في مخيلتي.
أدهشني لدرجة الانفعال، عندما سمعت صوت خالته تصرخ حين سماعها الخبر، وأنا معها مباشرة بالسؤال عنه: “أحمد مات” وأجد صوتها مطابقا صوت أمه المرحومة بتول التي رحلت في عمر 38 سنة، وبلا تردد ذهبت لهم باكية، فرأيت وجوه عزيزات على قلبي وقريبات لي، يجمعني بهن شبه كبير ووجع أكبر، وليس الأمر مقتصرًا على ذلك، فما إن هدأت نفسي قليلًا حتى بدأت باكتشاف الشبه بين وفاة “أحمد” وأمه بتول وأخوه المرحوم فواز، جميعًا قد رحلوا بعمر يقترب من الـ 38 سنة! ترى هل تفسير ذلك منطقي، ويعد وراثيًا! فليسامحني ربي؛ فهذا الإرث العجيب بهكذا عمر من الرحيل، والذي تعدى الملامح بكثير ليدخل في أقدار السماء، سبحانك ربي! ولعل أصعب المواريث هي توارد هكذا وفيات متشابهة أن ترحل الأم وولداها في ذات العمر دون الأربعين.
وحان لي أن أبدي دهشتي أيضًا، على الرغم من مرور خمس سنوات على رحيل شقيقك فواز، ومن كرم الله ولطفه عليك أن يكون لك فرصة الجوار معه جنبًا إلى جنب، ها قد لحقت يا أحمد بوالديك وشقيقك، وغادرت الدنيا التي كانت قطعة من عذاب اليتم.
فلتهدأ نفسك، ولتسكن أوجاعك، ستكون أقوى مما مضى وأنت في ذمة الله. إلى فسحة الجنة بكل ما فيها من طمأنينة وأمان، نم قرير العين متحررًا من الوجع والمرض ومن الهواجس التي استعبدتك كثيرًا.
وأخيرًا، أقدم تعازي وصدق مواساتي للجميع دون استثناء، وعزاء خاص لخالاته وأخواته وعماته ولزوجته؛ وكم أدهشني صبرك وهدوءك!!