أمنية تفتقت منذ بواكير الطفولة برعمًا في فضاء التوق، واخضرّت سعة من خيال، وأزهرت حلمًا من نور، تتراءى بين العيون طيفًا أخّاذًا؛ كلما فاض العشاق طوافًا، السابحون في فلك البياض، يتعاظم الشوق ارتحالًا لمركز الجاذبية الروحية، سفرًا يشعل الحواس، ويلهب المشاعر نحو قبلة على مرمى حجر من الروح، تهفو النفوس إليها كل يوم.
حين آوت ابنة الخمسة عشر ربيعًا إلى فراشها، والنوم ملء جفونها،أبصرت حلمًا محملًا بالبشرى، دلالة خير لأيام قادمة.
تنفس الصبح والغبطة تسكنها، وطيف الفرح يعانق وجنتيها، أوليس الصبح بقريب؟.
وعلى مائدة الفطور، سردت حلمها كهدية بين يديها، تقلبها وصفا وتغزلا، وعن يقين مطلق، بتحقق حلمها لا محالة، لكن السامعة تعجبت من إفراطها في التفاؤل، مستبعدة تحقق ذلك، مناورة بكلام مفاده مكافأة ونذر.
هو حلم أمي التي تتباهى به دوما، لم يكن أضغاث أحلام، بل رؤية صائبة، محملة بالرمزية والقول الفصل، إشارة عبور لمهوى الأفئدة.
أبصرت نفسها حلمًا في البيت، جالسة قبالة مدخل غرفتها على مقربة من “محجر الشمسة”، لحظات وأطلت عليها أمها وناولتها قطعة قماش حمراء، تساءلت بعغوية؟ “إيلاوية” قالت لها: “خذيهم يابنتي بركة، والسنة باروح الحج وياك”، دار حوار بين أخذ ورد، باحتمالية عدم موافقة زوجها، طمأنتها بأن خالها سيتولى مهمة الإقناع.
ثم انتقلت لمشهد آخر من ذات الحلم، ألفت نفسها تتجول في ربوع بستان حافية القدمين، وعلى أنغام تغريدات الطيور من كل لون وشكل، رأت جدولا يتدفق ماؤه سلسبيلا، صوت الخرير أطرب روحها والحواس، ثم سارت بجواره، وكلما مشت وقطعت مسافة لم يزل ممتدًا، فانبهرت من طوله وجريان مائه الصافي المترقرق عذوبة ولحنا، وحين وصلت إلى نهايته أبصرت النبع وعنده امرأة جالسة بردائها الأسود، مولية ظهرها نحوها،لم تر وجهها، وأبلغتها بصوت كجمال انسيابية الماء:
” يامريم أبشري وقرّي عينًا سوف تذهبين للحج هذا العام، وسوف تنجبين ولدًا، وتسمينه عبدالنبي”، انتبهت من حلمها والدنيا لم تسعها، حضنت جسدها بتطويق خصرها بيديها امتنانا للحلم، ثم رفعت كفوفها للسماء “يا رب حقق لي أمنيتي”، انطلقت منتعشة، وبين لحظة وأخرى تستعيد شريط الحلم بإيمان راسخ بأنه سيتحقق بمشيئة الله، بهجة لم تسعها؛ فراحت تقص الحلم على زوجة حميها السيدة “نجيبة الشبركة أم ميرزا شلي”، لكنها تعجبت منها غير مصدقة، معللة لها بثلاث نقاط؛ صغر السن، ولم تكمل عامًا على الزواج، وحامل في الشهر الخامس.
دهشة حلم تكبر وتتعاظم في عينيها، تسمع الكلام غير المشجع عكسا، وفي حوش البيت وقت الضحى أقبلت عليها حماتها أخت زوجها أم محمد سليس وهي المرأة الثانية التي أبلغتها بالذهاب للحج، فرحة فتاة في مقتبل العمر لم تهجر بعد طفولتها البريئة، لا تتوانى عن البوح للمقربين ولو عبر بوابة الحلم “السنة باروح الحج يا أم أحمد” ردت عليها بتهكم! “لو كل حلم نحلم به يصير شوف العين، إنچان الفقير صار غنيًا، والمنطحن بنى قصرًا، وينك يابتي وين الحج، بعدك صغيرة، أخوي ما حج وما عنده استطاعه للروحه، چيفه بتروحي قبله” لكن أعقبت لها طبطبة بالتمني مستقبلًا ” الله يكتب ليكم يابتي وتروحوا سوا ويرزقكم الذرية الصالحة”.
يقين صبية يملأ كل جوانحها، مسربلًا بحلم الرؤية، واقعًا لا محالة، وعند العصر بدأت أولى تباشير التحقق، أتت إليها أمها ليلى قادمة من فريق الأطرش عنوة للديرة من أجلها، وأعطتها ثلاثة خبز متين؛ بمناسبة خطبة بنت خالها -أم كريم ثنيان- ثم أخذتها إلى دارها وباحت لها بالخبر السار: “خالش بيروح الحج أني وياه ومرته وبناته، وأوصاني بأن أعلمش إذا لش عزم تروحي ويانا”
حضنت البنت أمها وردت عليها “الله الله يا أمي، ترى حلمت بش البارحة وأنت تعطيني خلاقين حمرين وتقولي بنروح الحج، وهذا ما رأيت في الحلم كيت وكيت، چيفه ما ودي أروح، أبغي أروح، هذه أمنية حياتي، لكن زوجي يوافق لو ما يوافق، وچيفه يخليني أروح من دونه”، ربتت الأم على كتفي ابنتها وطمأنتها “لا تحاتي، خالش
بيقنع رجلش، وكل شيء على كتبة الله”.
عند موطن ميلادها، دار حلو الكلام على ألسنة الرجال وتحديدا في رحاب أول دكان أسس في فريق الأطرش، الذي كانت تأتي إليه الطفلة “مريم” في حدود التاسعة والعاشرة من عمرها برفقة بنات خالها، يأتين بطلب من أمهاتهن؛ لشراء أغراض خفيفة للطبخ، كبريت، علبة صلصة، ملح، بهار، “لومي عماني”، وصاحب الدكان “الحاج مهدي آل حبيب”، كريم وابن كرام يغدق عليهن عطايا بسيطة تثمينا لطاعة أمهاتهن، الجزاء بضعة حلويات تدخل البهجة والسرور على نفوسهن، ويخاطبهن بأبوة حنونة وبسرعة في الكلام: ” حارسوا حارسوا، بنطيكم بنطيكم، يسلمكم الله من طرف” يرمي في وسط “البخانق”، بعدما تمسك كل واحدة بيديها الاثنتين أطرافا بخنقها ليكون حضنا يستقبل بسكوتًا “حب سفسيف- فساد أبيض” و”علوچ أبو تفاك” أو”حلاوة خشوف” أو”ملاليس” ،يهرولن والدنيا لا تسعهن من الفرح، يقولون: “من فرّح طفلًا فرّح نبيًا”، صغيرات ينطلقن ببراءة، تشجيعا لهن ليأتين في أي وقت تطلبهن أمهاتهن عند طلب حاجة أو غرض من الدكان، طالما الهدايا في انتظارهن.
فكرة صائبة من رجل ذي بعد نظر، ويعد محله جديدا، لكنه هوّن المشقة على مجتمع الفريق الذي كان مقصده دكانًا يقع في الخارجية على بعد 400 م لصاحبه “حجي حبيب العقيلي” وهو الأقدم والمعتمد عليه سابقا، لكنه بعيد على الصغيرات، اللائي لا يظفرن بشيء سوى التعب، فكيف بمكان على بعد خطوتين من بيوتهن وجاذب بالعطايا.
هو ذات المكان الذي انثال بعطايا الفرح سابقا عاد مجددا، يزف البشرى حين أتت إليه جدتي لتشتري لوازم لبيتها، وبعد التحية والسلام أطرق صاحب الدكان الحاج مهدي آل حبيب سمعها بعبارة على غير المعتاد “أهلا بأم علي، أهلا بالحجية”، ردت عليه “الله يعطينا”، وأردف مبتسما حين استشعر أنها لا تدري شيئًا، وهو يناولها الأغراض قائلا لها: “يابت حجي مهدي بن زرع بتروحوا الحج السنة” ردت عليه باستغراب ” منهو قايل لك أني باروح” ابتسم وأكد لها” في دكاني وعلى هالكراسي جلسنا وتشاورنا مع أخوش حجي حسن عن أهمية فريضة الحج، وشجعته على الروحة ما دام الواحد بصحة وخير وعافية، ما أطول عليش السالفة، هذاكو حجز ليكم أخوش بتروحوا الحج كلكم أنت وبنتش مريم”.
لم تستوعب جدتي الخبر قائلة “أني ما أصدقك ولا أصدقك” رد عليها “روحي سايليه”، وانطلقت مسرعة إلى بيت أخيها لتتأكد من صدق الموضوع، قابلته “هالحچي اللي اسمعته من حجي مهدي صحيح؟”، وبكل الشوق أفاض أخوها حسن جملة وتفصيلا “إيه صحيح، حجزت ليكم كراسي بنروح ويا حملة حجي عيسى الدار من القطيف والمرشد الملا عيسى بن عباس من أرض الجبل”
ما أروع التوجه لبيت الله وما أحلاها من أمنية تتحقق في تلك الأزمنة الغابرة، وأوضح لها أخوها نية عزمه تأكيدا بالتأكيد، وأعاد فحوى الكلام ثانية وثالثة، معددًا أسماء الذاهبين من أولاده وبناته، ومخاطبًا خليصته باعتزاز بأنها على رأس الرحلة
مع ابنتها العروس مريم.
جدتي، طارت فرحًا واستجابت فورا وبرضا زوجها محمد حسين أبو جاسم، الذي تزوج عليها حديثا، نهاية شهر رمضان، ومراوحات كلام الحج بداية شهر شوال.
وفي ذات اليوم عصرا أتت جدتي للديرة لتخبر ابنتها وأعطتها الخبز المتين، ونثرت البشرى “يابنتي قبل لا أطلع من بيتكم جهزي حالش كأنش ذاهبة ويانا للحج ويا خالك حجي حسن وأولاده وبناته، واللي خبرني أول واحد حجي مهدي آل حبيب صاحب الدكان الذي كان يعطيش حلاوة وأنت صغيرة، هو من أعطاني بقباله لحليو هالخبر الزين، قال لي قبل لا يخبرني خالش بأي شي، وحين رحت له بيتهم، قال: نعم حجزت لش يا خيوه مع بنتش مريم، رحلة الحج هالسنة بس شوفيها إذا ليها عزم على الروحة”.
فرحة مشوبة بالتأوه، وشيء من القلق “يا أمي إذا أروح الحج من غير رضا زوجي ما توجب لي الحجة مو عدل؟”، ردت الأم: “بتروحي من رضاش ورضاه إن شاء الله، وهذي فرصتش السنة ما عندش أولاد ولا غير أولاد، غير أنش حامل في شهرش الخامس ما تحاتي لش أحد، إذا أنت أكيد بتروحي ترى خالش بيتصرف ويا رجلش”.
بهجة قلوب دقات فرح والوقت حالة ترقب وتحسب، في انتظار أخذ موافقة الزوج الغائب في رحيمه مع أخيه عبدالله حيث دكانهما المشترك.
يسر الله ثلاثة أصدقاء مثل الإخوة عقدوا العزم على الذهاب للشاب محمد مكي شلي؛ لتوضيح الأمر وشرح الموضوع له من أبعاده الشرعية والدينية، لكن كيف يصلون إليه وهو البعيد عنهم بمسافة 50كم، والمواصلات غير متاحة، بل تكاد تكون شبه معدومة، لكنهم مدركون أن الوقت لا يحتمل انتظار نزول الزوج نهاية الأسبوع، التأجيل سيضيع الفرصة، وصاحب الحملة مشدد على سرعة وصول الأسماء كاملة؛ ليعتمد عدد الكراسي لكل عائلة، ويرتب كم يحتاج من الباصات الذاهبة.
أي فعل جميل قام به هؤلاء الثلاثة، لقد قطعوا البحر بين تاروت والقطيف، ركوبا على “الگواري” يمخرون عباب الموج، ثم بعد طول انتظار استقلوا سيارة أجرة من “استيشن القطيف” إلى رحيمة ذاهبين للزوج ليقنعوه ويأخذوا منه إذنا بالموافقة، لكن بعد العناء وشد الرحال لم يجدوه، فقط التقوا بأخيه عبدالله وأوضحوا له الأمر،”إحنا عازمين على فرض الإسلام بنروح الحج ومرت أخوك نبغاها تروح ويانا” رد عليهم “هذا شأن أخي محمد وليس لي أي دخل في الموضوع”، وقبل أن يغادروا المكان أبلغوا الأخ الأكبر بحسن الكلام وجميل التحيات.
المفارقة أن الثلاثة فيما هم ذاهبون إلى رحيمة لمقابلة الزوج كان هو عائدًا إلى تاروت على غير العادة.
أخيار كانوا يمنون النفس لو قابلوه شخصيا، لكن نواياهم سبقتهم إلى تاروت.
ما إن هبط الشاب محمد من فوق سطح “الگاري” قادما من القطيف، وفي وسط سوق تاروت قابله مرشد حملة الحج الملا عيسى بن عباس، وخاطبه: ” زين شفتك يا ولد حجي مكي شلي، ما التقوا بك افلان وافلان وافلان، هم رايحين لك رحيمه” رد مستغربا بأنه ليس لديه علم ولم يقابل أحدا، وأردف الملا “متعنين لك حتى يأخذوا منك الإذن بالسماح لزوجتك بالذهاب للحج ويا أمها وخالها حجي حسن بن زرع، ويش تقول ترخص ليها بالروحة؟”.
رد عليه بقناعة ورضا وترحيب بالفكرة، مكثرا من كلمات الحمد والشكر “ليش أمنعها، ما أمنعها من تأدية فرض الإسلام هذا حق وواجب”، نفس تركيبة العبارة ونسق الكلام، دارت على ألسنة أصحاب النوايا الحسنة. ورحم الله من سمى كل واحد فيهم باسم حسن، فقد أحسنوا قولا وفعلا وتدبيرا لحجز مقاعد رحلة الحج.
هم الأصدقاء الثلاثة الروح بالروح، التي تكن لهم أمي محبة بالغة، ودائما تذكرهم بالخير وتترحم عليهم جميعا، بدأ بخالها حجي حسن بن زرع حجر الأساس في الموضوع، وبالتشاور مع صاحبيه حجي حسن الدقدوق أبو حبيب، وحجي حسن الصادق أبو جاسم، وحجي مهدي آل حبيب وليس انتهاء بالملا عيسى بن عباس، وأمها ليلى بل لكل من يسر دربها لزيارة مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم، وبيت الله الحرام ضمن حملة الحاج عيسى الدار في رحلته المباركة لحج عام 1379 هجرية، الموافق 1959م.
كثيرة هي الأنفس التي تسعى -دائمًا- لفعل الخير في كل زمان ومكان، تصرف ما في الجيب من أجل تقريب وجهات النظر، تحاول جاهدة لتيسير أمر ما، وتذليل عقبة محتاج، وفك مشكلة معوز،
وتُعنّي نفسها من أجل إصلاح ذات البين، وتسهم تبرعا بالمال، أو إسداء رأي لما فيه مصلحة للجميع.
الرجال الثلاثة هم عينة من زمن الطيبين، وحسن النوايا، أحلام رؤية، وأمانٍ محققة.
ما أجمل قوافل الأمس، وهي تشد الرحال للديار المقدسة، فتلك حكايات يشد إليها الخيال سفرًا من واقع، وخيالًا من سفر.