يَظُنُّ الكثِيرُون مِن عَامة الناس أَنَّ “النَّقدَ” بشكل عَام، المُوجَّه لهُم، ولَو بحُسنِ نِيةٍ خَالِصةٍ، هو وَجه أَسود كالِح لعُملةٍ مَكشوف وَجهها، يَتعرَّض دَومًا لِمُباغتة عَوامل التعرِية الظنِيَّة الحَمقاء؛ ويُواجِه باستمرار، لسُوء هَجمَة النحت المُدمِّرة الخَرقاء، مِثل غَيره، مِن سَائر المَاديات المُهمَلة، على مَدِّ النظر، مِن حَولهم. وبتعبيرٍ أَدقَ وُضوُحًا، وأكثرَ صَراحةً… تَرَى تلك الفئة مِن سَواد المُجتمع، أَنَّ مُجرد الاقتِراب، أَو التسَلل العَفَويين، خَارج خُطوط وحُدود مُحِيط دّائرة النقد، يُعدان، بحَساسِية مُفرِطَة، خُطوطًا حَمراء، أَو أَسوارًا مُحَصنةً، لا يُمكِن، أَويُسمَح بَتاتًا، النفاذ بسَيرٍ مَهلٍ، أَو الارتقاء بتقَدُّمٍ سَهلٍ مِن فَوق قَوائم جُدرانها “الحساسة” بامتياز!… والمُلفت للانتباه، أَنَّ أَدنى مُحاولة عَابرة نَاقِدة، بشكليها: الخَام “السام” أَو المُخفَّف المُلطَّف؛ فإِنَّها تُهاجَم وتُقذَف تِلقائيًا- مِن كُل حَدبٍ وصَوبٍ- بمَرمَى ذَخِيرةٍ حَيةٍ مِن مُستودَع زِناد بَطاريات صَواريخ مُضادة، مِن مَنشور تَرسَانة أَحدَث أُسطُولٍ مِن طِراز “باترويت” المُطوَّرة… !
ولَعلَّ صَدى ومَدى رُكَام تلك المَرئيات المُعاشَة، القابِعة في صَميم صُلب طَياتها المُعلنة، ليست لَفتة عَابِرة، أو وَقفة خاطِرة فَحسب، بل حَقيقة مَاثلة، كسَحابةٍ خيرٍ مَاطِرةٍ، تَرشُّ بوَدَقِها، بنِيَّة البركة الصالحة؛ وتُهدِي بنمِيرِ جُودِها الرافد بَاكُورَة إِنزال شَآبيب الرحمة… ومِن بَاطِن عَين العقل، ودَمَاثة حُسن الخُلق، أَنْ يَتقبل الشخص المُنتَقَد” سَلة النقد” المُهداة له، في ظَاهِر سُلوك خاطِئ في مَوقِف مَا، بصدرٍ فَيْْحٍ رَحبٍ، وسَماحَة وَاعيةٍ يَقظة، تَتفتَّح لنفاذِ عَبيرِها المُعطَّر المُيسَّر أَبواب البصيرة والبصر…!
وخِلافًا واختلافًا لِما وَرَد في المُقدَّمة الصادِمة… مِن شِدَّة انكِسار، وضَراوَة انحِسار مَسارات مَوجَة النقد العاتية الشاطِحة، لسُلوكٍ مَا، أَو أداءٍ إِجرائي مُعيَّن، يَراه الآخرُون ناقصًا، تَلزمه وتُسنده خُطوات إِجرائية تَصحِيحِية؛ ليصلَ، بإِصلاح “الخلل” القائم، إلى سَقف مُستواه في مَرحلة مِن الاكتمال والقَبُول المأْمُولين… وذَاك شَيءٌ مَحبُوبٌ مَرغُوبٌ فيه، لا تَختلف نظرة اثنين واعِيين على شَفافية وبَراءة سَلة النقد الإِيجابي البناء، جُملةً وتَفصِيلًا… ومَع أَنَّ بَوادِر وبَوارِق الشفافية الحَسَنة، المُنبثِقة في طُولِ أُفقِ مِثل ذلك المَوقف المُستنِير، تبدو آمِنة مُطمئِنة؛ إِلَّا أَنَّ سَماحة الناقد البَصِير، عليه ألأَ يَأْمَن، تلقِّي “شَرَر وحَجَر” صِدق نُصحِه، وحَصافَة حِنكتِه، ورَجاحَة رَأيه، مِن أَنْ يُِسدد ويُصَوَّب نَحوه بترقبٍ، كَيلٌ مُضادٌ مَارقٌ حَارقٌ مِن “ذخِيرَة” الصدِّ والردِّ – باستعجالٍ واستخفافٍ- مِن رَدِ فعلِ المُنتقَد الأَرعَن، قَبل اكتمَال مُهمة التنقِيح، وإِسدَاء فُرصة التصحِيح الذاتِيَتين المُسدَّدَتين صِدقًا ولُطفًا، مِن صَادق رُؤية، وصَريح نَباهَة الشخص الناقد!
ولَعلِّي أَكون هنا، شَاهدًا مًاثلًا، ونَاقدًا رِدءًا، ورَديفًا فاحِصًا لمُداولات المَشهد الإِجرائي الآنفِ الذكرِ أَعلاه؛ لأَضَع- بشفافية وأَريحية- بعض النِّقاط على أَسِنة الحروف بتصرفٍ مُتأَدبٍ، مُحلِّلًا سَلاسَة النَّسَق الأَخلاقي الصائب؛ ومُرتِّبًا لِياقة المَنطق العَقلاني السليم… لأَرَى- بأْمِّ عَيْْنَيَّ- مِن حُسن سَريرة الشخص المنتقَد، التمَهُّل المُجِل، قبل التعَجُّل المُخِل، بَعد اكمال وإِتمام هَدية المُقترحات الإِجرائية مِن الناقد المُباشر؛ وعليه أَن يَشكر بتَأَدبٍ؛ ويُجِل بتَهذبٍ؛ وأَنْ يُقدِّر “مُتلقي النقد” بعِلمٍ وحِلمٍ، إِمدَاد رَيع نَصِيحة صَاحِبه، وسَديد رُؤيتة؛ وإِنْ لم يَشعر- المنتقَد- السارِح الفكر، الشارِد الذهن، لَحظِيًا، بصَفاء رُؤية، ونقاء رَوية الفِكرة الناقِدة، دَاخل نواة مُحَيا كَبسولتها النضِرة؛ والمُهداة استِحبابًا وتَفضُلًا، مِن صَميم رأْس الناقد المجتهد … ولعل جُلَّ حَصيلة أَسمى خِبراته المَيدانية، تكون أَكثرَ نُضجًا، وأَصوبَ وُضوحًا، وأَقومَ إِخراجًا!
هذا، وللنقد الإِيجابي البنَّاء- لا الانتقاد السلبي الهدَّام- أَركانٌ وأَسَاسَاتٍ مَعرُوفَة مَدرُوسَة، لا يُمكن إِغفالُها، أَو تَجاوُزها استعلاءً، أَو غَلبةً، بل احتواؤها وتَقمُّصُها، جُملةً وتَفصِيلًا: أولها، إِِحاطَة المنتقَد بمشَاعِر المُراعَاة الحاضِنة، والاحترام المُتبادَل، والبَوح الصدُوق… مَع وَاقع خُصُوصِية وحّسَاسية الشخص المُستهدَف بتَوجية النقد البناء، في إِطارٍ شَفَّاف مَوزُونٍ، قَولًا وفِعلًا. وثاني تلك الأَركان التُلاثية الأَساس، حَصَافة وسَلاسَة الأْسلُوب المُتدرِّج. والمُشِيد مُقدَّمًا، بجِوانب المَزايا الإِيجابية البارزة للمُنتقَد؛ لتَأْسِيس وتَوطِين حَالة مَطلوبة مِن التوازن النفسي عِنده، وَسط بيئةِ النقد الجاذبة، والتلوَيح بيد المُداراة الحانية، بين الفَينة والأْخرى، بحِكمةٍ مُحاوِرة ظاهِرة، وحِنكةٍ إِدارة غامِرة، مِن سَفَط جَوهَر فَنِ النقد المُربِّي البناء؛ والمُعدَّة أَهدافها- خُطةً وإِخراجًا- بمُرونة وأَريَحيةِ مُناخِ جَلسة النقد الساخِن الماتِع؛ لتَطرَب، بسَماع نَغماتِه الرخيمة، الآذان الصاغِية، وتَستلِذ بتقَبل رَيع فَحوَى دِفئه المُوجَّه مَجَاسُ العُقول الواعِية. وثالثها، استحضار مَهارة، وخِبرة، وإِدارة، واحترافية الناقد المُتمكِّن مِن صِياغَة وبَث أَروَع وأَنجَع نَسيجٍ مُتجانِسٍ مِن أَسمى بَوتَقة مُفردات النقد الإِيجابية النافذة… كمَوقف المُدير النِّحرِير لمُؤسسة ذات صِيتٍ صَادِح نَاجِح، يَتمتَّع بنزعَة استراتيجية صَرِيحة رَاجِحة، يُشارُ إِليه استحقاقًا، بواضِح البنان؛ ويَسعى ببصِيرةٍ ووَعيٍ، جَاهدًا مُثابرًا، إِلى نَزعةٍ مُسارِعةٍ، ونفرةٍ سَبَّاقةٍ؛ لتطبِيق الخُطط والبَرامج الطموح الظافرة؛ وتفعِيل أَدوَار هِمَم تنظِير، وبُنود تَطوَير المَفاصِل الإنتاجِية المُتنامِية؛ ويِسانِد برؤية نافذة، شامِخًا طامِحًا، بحزم وعزم، إِلى تَحفيز وتشجيع السواعِد الريادِية الواعِدة لِمؤسسته… (رَبَّنَا لا تُزِغ قُلُوبَنَا بَعدَ إذ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنكَ رَحمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الوَهُّابُ).