يَشِيع بين الناس عَامة، والطبقة المُثقَّفة، مِن أَفراد المُجتمع خَاصة، المَقُولة السائدة المُحترمَة: ( العِلمُ لِلجَمِيع)… غير أَنَّ الباحِث المُتتبِّع لأَبسَطِ وأَقرَبِ بُنود تَطبِيقاتها، وفِقرات مَرامِيها الاجتماعية العملية، في شَتى صَميم مَناحِي الحياة اليومية المُتسارِعة، لا يَكاد يَرى لها أَثرًا يُذكر؛ وكأن سَائرَ مَحَاسِنِها، وشَائع مَحَامِدِها التنويرية الجمَّة، قد تمَّ، قَسرًا وقَهرًا، إِقصاؤها ونسيانُها، داخل بُطون الأَدرَاج، وإِغلاقُها عُنوةً وغِلظةً “بالضَّبَّة والمِفتاح”.
والحَدَث الحَادِث، الذي له عَلاقة وَثيقة بالموضُوع، أَنَّه أثناء ابتعاثي للدراسة في وِلاية تكساس الأَمريكية، في أواخِر السبعينيات مِن القرن المِيلادي المُنصرِم… كُنت وأفراد أُسرتي أراجع المُجمع الطبي المُجاور للمجمَّع السكني، حَيث لا أكادُ أَنسَى الخَدَمات المُتميزة المُقدَّمة للمرضَى والمراجعين هُناك، حَيث على المريض أَن يَمثُل إلى عِيادة طبيب الأُسرة؛ ليَغدِق عليه مِن الشرح، والإفادة، وتوضِيح الأسباب، وشَرح الأَعراض المَرضِيَّة، وتثقيفه، جُملة وتَفصِيلًا؛ بما في ذلك الإِجَابة المُتخصِّصَة، على جُملة مَخاوفِه، وسَائر سَلة أَسئلتِه الشائكة في ذِهنه؛ وفي حالات مَرضية مُتقدمة، يتم إِحالة المريض إلى الطبيب الاستشاري… وكأنَّ تلك اللمسَة الحَانية الضافية، والمَسحَة التثقِيفِية المُواسِية جُزءٌ لا يَتجزأ مِن فاتُورة العِلاج!
والمُلفت للانتباه، في أيامِنا المُعاصرة، أَنَّ عَطاء وسَخاء تلك المَقولة التنويرية، لا يَذكرها أو يُطبقها إلا القِلة القلِيلة مِن مُقدمِي الخَدَمات النفعية لطالبيها… فالميكانيكي يُتوقَّع مِنه أَنْ يَتولى زَبونَه بالإِفادَة، والشرح الإِجرائي المُفصَّل المُثَقِّف لِمُهمة التصلِيح والصيانة المَطلوبة، بعد أَن يَستمَع إِلى إِفادة مُستخدِم المَركَبة، عن طبيعة وتاريخ، وأَعراض الشكوى “الميكانيكية، أَو الكهربائية” للمركَبة… وكَذا بَائع ومُسوِّق الأجهزة الكهربائية، عليه أن يَتولَّى زبونه بشرحٍ مُفصلٍ بالمُميزات الفنية، والمَزايا الشغيلية للجهاز الكهربائي المَعروض للبيع، ويُبين فَوارِق الجُهد في بِنيَة طاقته الاستهلاكِية… وأَنْ يَترُك للزبون أَخيرًا، حُرية الاختيار، حَسَب رَغبته المُقرَّرَة، ومُرونة قُدرتِه الشرائية!
ومَا يَنطبق على مَوقِف الطبيب الناصِح؛ ويَتفق مَع حِنكة الميكانيكي الناجِح؛ ويُطابق ثقافة بائع الأَدوات الكهربائية الرابِح، يَنطبِق بدِقَة التمام، وحَصَافَة الكمال، على كُل مَن يَقوم على تقديم خِدمة اجتماعية، أو يُؤدِّي عَملًا مِهنيًا، أو يُسَوِّق سِلعةً تِجاريةً، أو يُقدِّم مُهمةً فَنيةً نَفعِيةً… ويَمتلك رَصِيدًا وافِرًا مِن أسرار مِهنته؛ ومَخزونًا مُماثلًا مِن واسع خِبرته؛ وصِيتًا ذائعًا مِن سُمعته؛ بجانب حَصيلة خِبراته العِلمية، والعَملية المَيدانية، وطَيفٍ وافر مِن قدراته الاحترافية؛ لمُخاطَبة ومُشافَهة جَانبٍ مُتيقظٍ مِن عَقل المُستفيد، (طَالب الخدمة المُقدمَّة) وإِفادتِه على قَدر فَهمه، ومُجَاراتِه بمُستوى ثَقافته… ليُشاع ويُذاع أَمر سِيادَة ورِيادَة دِيباجة مَقولة الثقافة المُتَقاسَمَة المُحترَمة ذاتها؛ وتَوطِين دَورها؛ وإِشاعَة مَفهومِ مَقاصِدها؛ وتعزيز مَرامِيها الاجتماعية الشاملة “العلم للجميع”… وأنْ يُصبِح لُبابُ رَيعِها رَصيدًا سَالكًا رَابحًا، في آفاق، ومَراقي صَميم وجَوهر ثِقافة الفرد المُعتبرة؛ ومُستَوطنًا شاخصَا أَثره الراسِخ في بِنيَة عَقلية ثقافة ودِراية المُجتمع الحَاضِرة، على حَدٍّ سَواء، في أوج عَصر العَولَمة المُتنامِي؛ وذُروة فَجر مَد مَوجَات الانفتاح الثفافي المُتعالية؛ وتَعدد وتَنوع وسَائل التواصل الاجتماعي المُتجددَة… وأَنْ تُمسِي مَفَاصِل تلك المقولة الرائِدة الراجِحة رَكيزةً أساسيةً ثابثة، تَتهادى بمَحَطِّ أقدامها البكر؛ وتَمشِي الهُوينى، دَاجنةً شَاخِصة، بزَخم أصَالتها المُتجذِّرة في شَتى مَناحِي المُعامَلات الخدماتية النفعية، بأَسمَى شَفافِية، وأَرقَى مِزاجِية، وأَنمَى أَريحِية، وأَجدَى حَيوِية اجتماعِية مَنشودة… وبالله التوفِيق، ومِنه نَستمِد العَون والمَدَد؛ ومِن فائق قُدرَتة القادِرة نَستلهِم حُسن الثواب، ونَسترفِد جَزيلَ الأَجر المُسدَّدَين!