بينما هي تُصارع لهيب الانتظار، خفقاتها تتسارع، تُعتق الشّغف اللّحوح، إنّها تسمع صوت الباب، توجهت ناحيته، رمقها بعينيه، وابتسامته تملأ المكان، أسرعت إليه، وعيناها تسبقها بالدّموع، احتضنته، مسح على رأسها، الصمّت كان سيّد الموقف، تأملت ملامحه، كأنّه يُخبئ شيئًا ما، لوّحت إليه بعينيها، أجابها: ألف مبروك لنا، فقد تمّ نقلي إلى هنا، بعد اليوم لن أفارقكم، انتهت المُعاناة، تجمّدت في مكانها، شفتاها ترتجفان، احتضنته، وهي تبكي! أخيرًا ستكون معنا! لقد أرهقتني الحياة في غيابك. تصرخ حنان في سعادة.
مرّ أسبوع، جاء من أجمل الأيام، ابتعدت فيه عن كلّ شيء، سوى حبيبها تُعوض المسافات البعيدة، تذكرت صبا، بينما هي في مرسمها، تناولت اللّوحة، وقامت بتغليفها بطريقة جذابة، وكتبت بضع كلمات على بُطاقة الإهداء، تناولت هاتفها المحمول، وقامت بالاتصال بها، لم ترد، أعادت الاتصال مرة أخرى، توجست، اضطرب قلبها، رجع نجيب من منزل والده مهمومًا، وجهه لا يُمكن تفسيره، ازداد قلقها، سألته عن سبب قلقه، توتره، تغير ملامح وجهه، مسك يديها، وعيناه في عينيها، تعلم حنان أنّ زوجها، يحمل في داخله خبرًا سيئًا، لاتزال تنتظره يتحدث، أنزل رأسه: عظّم الله أجرك حنان، لقد تُوفيت صبا.
أفاقت من الإغماء، يُحدثها نجيب لا تشعر به، يناديها، لا ترد، عيناها جاحظتان تُحدقان في المجهول، ما أقسى أن تتجمد الدّموع في عينيك، وتُحيطها هالة سوداء، ذهب نجيب إلى الصّالة مكسور الخاطر، يُفكر في حنان، كيف يُخرجها من حالتها؟ يتلبسه الخوف من ازدياد حالتها.
لقاء على شاشة التلفاز مع كاتبة، تتحدث فيه عن العلاج بالقراءة، اعتدل في جلسته، وتمعّن في اللّقاء، وصرخ: وجدتها! وجدتها!
أسرع إلى حُجرته، أدار طرفه يبحث عنها وجدها أخذها وجلس بقُرب حنان، فتح المجموعة القصصية، ظهرت له قصة “ونبقى معًا”، قرأ: يا رفيقتي، قد نرحل عن هذا العالم ذات يوم، ولكنّنا لا نرحل؛ تبقى أحاديثنا، ذكرياتنا، أنفاس اللّحظات، الأمكنة، تُرافقنا، تأتينا كالنّسمات تُطبب أوجاعنا، تبعث فينا الأمل، نعم يا رفيقة الصّباحات النّدية، قاطعته: إنّها صبا، هذه كلماتها، أنفاسها، وأوجاعها، أمنياتها، صبا لم ترحل، تسكنني، لا لم ترحل.
مدّ يديه وقام برفعها واحتضنها ليُواسيها، يهمس في أذنيها بكلماته الحنونة، التي تُلهب مشاعرها، يمسح على رأسها، كما يمسح الإنسان الحنون على رأس اليتامى، اليُتم مجازًا قد يجيء لفقدنا من كان توأمًا للروح، لم يدع يديها، خرجا إلى الصّالة، جاءت ليلى صغيرتها، احتضنتها.
طلبت حنان من زوجها أن يذهب بها إلى منزل صبا، سألها: هل تتحملين ذلك؟، أجابته: نعم، خُذني إلى رائحتها.
ما أصعب الغياب، تشدّ البصر إلى رُؤيتها، تقُودك الرغبة العارمة، لتُكحل ناظريك بها، إلا أن الفقد يقف عارضًا لتُبصرها، ولكنّ نبضاتك، تزداد تفاعلاتها، كلّما اقتربت المسافة، الآن، وصلوا، نزلت من السّيارة، بعض النّساء حول باب المنزل، تقدّمت، نظرت حولها، نساء كثيرات تجمعهنّ، منهن من تُمسك بالقرآن الكريم وتتلو آياته، توجهت إلى نجلاء، عناق الفاقدين يختصر المُعاناة.
رحلت، لماذا تركتني سريعًا، كيف سأعيش بدُونها، آه يا صبا، يا روحي، يا قلبي، لماذا رحلتي وتركتيني؟ قامت نجلاء تُواسيها وتُخفف عنها وتدعوها إلى التحاي بالصّبر الجميل. كيف حدث ذلك؟ تسأل حنان بحسرة قلب!
وضعت نجلاء يدها على كتفها، وذهبتا إلى حُجرة صبا في شقتها، أجلست حنان على مكتبها الذي تجلس عليه، لتكتب! بكت حنان بألم.
كانت جالسة على المكتب، تُمارس الكتابة، ديدنها كلّ يوم، وفجأة، افتقدناها على وجبة الغداء، أخبرتني أمي بالذّهاب لها في شقتها، في الطابق العلوي، وقالت: الآن، هي تكتب، ولم تشعر بالوقت، اذهبي لها. صعدت إلى شقتها، في العادة يكون الباب مفتوحًا، توجهت على الفور إلى حُجرة المكتب، وجدت رأسها على الورق المُتناثر، أناديها لا تجيب! أصابني الهلع، أمسكت بها، أصرخ بأعلى صوتي: لا تُجيب! نزلت إلى أمي، أصرخ: صبا ماتت بشكل هستيري، أغمي على أمي من هول الصّدمة، جاءت سيارة الإسعاف، أخذت صبا، وأمي، وتوارت عن الأنظار.
في النّحيب، قلب حنان، يرتعش، طلبت منها نجلاء أن تهدأ، لوجود أمر مهم، لابد أن تعرفه. ما هو؟ تسأل حنان.
أجابتها نجلاء: لقد وجدنا على مكتب صبا كلمات، وضعتها مُقابلها، يبدو أنَّها الكلمات الأخيرة، التي كتبتها، طلبت حنان منها أن تُحضرها، أمسكت بها بأصابع مُرتجفة، قرأت: هذا إصداري الثّاني كلي أمل، أن يتم تسليمه إلى حبيبتي حنان، لتقُوم بتصميم الغلاف له ولأي ظرف حتى إن لم أكن مُتواجدة كظلّ؛ لتقُوم حنان توأم روحي بطباعة الإصدار، ويُوجد في المكتب ظرف بداخله مبلغ من المال، وضعته للطباعة.
قبلت حنان الورقة، وضعتها عن أنفها، تنفست بعمق! ونادتها: حبيبتي صبا، لتكوني في عالمك قريرة العين، سأقوم بذلك، لن أنساك يا رفيقة قلبي، وألواني وذاكرتي الحُبلى بك، ستظل فيَّ، ودعت نجلاء بعد أن أخذت منها وعدًا بأن تُطمئنها على أمها غدًا، خرجت من المنزل، طلبت من نجيب، أن يجعلها تمشي أمامه، ويلحق بها، احتضنت الملف، وضعته باتجاه قلبها، لتختلط نبضاتها بأبجديتها، فالصّمت، يقتات من مسافة البصر بينها، وبين خُيوط الشّمس، والبوصلة باتجاه صبا، التي أصبحت من الذّكريات الجميلة في دقائق يومها، وكلماتها النّبع، الذي لا ينضب معينه، صبا ستكونين وسادتي، ونبراس وجهتي في الحياة. تهمس حنان.
أوقف نجيب السّيارة، ترجل منها، الآن يُحدّق في ملامح طيفها إلى أن غابت عن ناظريه.