شوق يأخذني لمراتع الشمال، إلى صبوات الفؤاد، لمعامير الارتواء، لضواحي الزرع، لشموخ الباسقات، لحقول الزهر والورد والرياحين، وروائح الليمون والنوام والطلع النضيد، سُرَّ من رأى مروج فريق الأطرش.
أرى الأكف تسبح بانسياب في قطرات الندى، والعين تسرح بالأخضر المتموج، من الداكن مرورا بالمتوسط إلى الفاتح والأفتح، زهوة لون متدرج بين الأخضر الليموني والزمردي، وتونات مشبعة بالأخضر الزيتوني، وعند سقوط الضوء والظل ينقسم الأخضر العشبي بين مشع وغامق، هارمونية اللون الأخضر يتلالأ سحرًا بين أوراق الشجر وحشائش الخضار، تبرز من ثناياها ثمار صفراء
وحمراء تسر الناظرين.
كل الألوان الحارة، دافئة بحميمية التجاور، ثمة التماعات من بريق الأخضر على الجذع والثمار والتربة والأجساد والطير، تحسب الكائنات تسبح في بحر أخضر.
أن تقف برهة أمام سحر الغطاء النباتي، وتتنفس هواء اليخضور المبلل بالندى، سوف تشعر بالراحة تتسلل لكيانك، طاقة إيجابية تتلبسك، تتخلق في النفس مسرة نماء تدعوك لحب الحياة، مثل وردة تفتحت لفصل الربيع ضاحكة للنسيم، تتبسم الأشداق بهبوب الرياح، حاملة ذرات اللقاح.
حواسي هائمة في جنائن فريق الأطرش، ولي فيها جنتان، ومسكنان، معامير زوج جدتي ومنزله، ومعامرة زوج خالتي ومنازله، أربعة أمكنة هي مرابع الطفولة والصبا.
أخرج من معامرة عمي محمد حسين سالم وأذهب لمعامرة زوج خالتي آمنة، الحاج ابراهيم الصفار، -خال الفنان التشكيلي علي الصفار – عشت بين مساكنهم ومزارعهم سنين عمري وفضلتهما أكثر على بيت أخوال والدتي،”حجي عبدالله وحجي حسن آل زرع”.
في بيت جدتي احتواء، أسر، وولع بشخصية خالي حسين الفذة وجاذبية خالتي زليخة ورقة خالتي زهرة، أما بيت خالتي آمنة وشائج محبة بيني وبين ابنها الأكبر علي وأخته زينب، صنوان الفرح وتقاسيم المرح.
المكانان شكلا ذاكرتي، واستطاب كياني، هيام في اللعب، ردح وحجل على الأرض الندية، وتحلق على موائد الأكل، سرد للحكايات الغافية، أوقات من نهار وأماسي الصيف في أكواخهم الفسيحة المفتوحة على السماء.
نبض الأمكنة حياة لمن عاش فيها، وتربى من نعيمها، وأكل من خيراتها. كم تسابقت مع ابن خالتي علي الصفار من حدود سور “احضار” معامرتهم الشرقي الى الغربي، وفي كل شوط كان يسبقني، لأنه طويل القامة وخطواته أكبر، رشيق كالغزال، لوحت الشمس جلده بصلابة، وصقلت عضلاته حرث الأرض وإنباتها منذ أن كان عمره ست سنوات، تقلب على البساط الأخضر فتنفس أديم الأرض، يعد الساعد الأيمن لوالده، يعتمد عليه في كل صغيرة وكبيرة، يحسبهم جيرانهم من الفلاحين من كثرة الكد والمزاح بين بعضهما بعضًا كأنهما صديقان.
فهما متجانسان فكرًا وعملًا، كل يفهم الآخر. لم أرهما يومًا خامرهم غضب أو عبوس، محياهما طلق يفيض محبة، والأب كريم لأبعد حد، أي شيء عنده من ثمر أو هدايا أكل يرسله إلى عمته “جدتي ليلى”. محدودة الحال، لكن يده سخية، قصير القامة، لكنه كبير النفس. عجنته الفلاحة فجعلته معطاء بلا حد، واسع الصدر لايعرف للحزن محلًا.
كم مرة أعطاني من خيرات مزرعته، سلالا حملتها بملء القلب والانشراح. في عريش مزرعته تباريت مع ابنه علي من هو أقوى عضلًا، كفوفنا تتشابك بالتحام الأصابع بالأصابع، نعد واحد اثنين ثلاثة، في ثوان يطرح كفي أرضًا، ومن دون أدنى مقاومة، لأن سواعده أقوى مني نتيجة مراسه للعمل وأكبر مني عمرا بسنتين.
ابن خالتي حرم من الدراسة، لكنه في الزراعة والإنتاج أستاذ، يملك من الفطنة وشدة البأس الكثير، صبور قنوع، مسالم مكافح ضحوك، يعد الساند والمساند والمساهم الحيوي لحراك زراعة والده.
كم مرة ألفيته يداري مرور تدفق الماء، سقاية لضواحي الگت والفجل والبگل والبصل والخضار النابتة على جروف السواقي -بامية وباذنجان وطماطم – وكذا أشجار اللوز والليمون، حين تكون دورة الري من نصيب مزرعتهم يرقبها باهتمام بالغ لئلا يغرق الزرع بالماء، مشهد يتكرر عند الفلاحين بوقت متحرك طوال ساعة النهار وتوالي الليل، يأخذ ابن خالتي علي في التنقل بين المستطيلات الخضراء وقطف حشائشها المتنوعة،”جز الحشائش” ويفتح “لسكار” ليتدفق الماء ثم يغلقه عند ارتواء ضاحية وينقله لأخرى، يدرع مسافات ذات المكان كل يوم بين الضواحي النضرة، وإطعام الحمارة في زريبتهم المتخذة زاوية شمالية غربية، والتي تشرف على العين الشمالية -عين حجي عبدالله آل سالم -، تنقل وهرولة، ولفحات شمس لوحته سمرة، يرى ظله يشاطره العمل وكأن شخصا آخر ينافسه فيزداد نشاطا، ينعكس وجهه الباسم على صفحات الماء الجاري على طول امتدادات “السمط”، فيشعر بالرضا، يسترد أنفاسه اللاهثة عبر تعليقاته الفكاهية وتبادل الضحكات المتطايرة مع أبيه، فكلما أنجز مهمة، يكافئ نفسه بإشعال سيجارة أو تدخين “النارجيلة” في رحاب عريشهم المفتوح على ثلاث جهات باستثناء الجهة الغربية، مقصد للفلاحين المتعبين، يقهقهون على وقع روائح الغليون وارتشاف فناجين الشاي والقهوة.
بهذا العمل الدؤوب المضني والمتعب والممتع، تأتي خالتي بالغذاء فتحلو اللمة، وكم مرة شاركتهم على سفرة الغذاء، والعصافير من حولنا محلقات فوق العريش وعلى الأغصان، سعف يتراقص وحشائش تتمايل، وراحة بال، وتطلع لغد مشحون بالأمل ومزيد من العمل في ظل سواعد الابن والأب، تكاتف يضرب به المثل.
ذات مساء كل الفضاءات الخضراء الجميلة تغير لونها فجأة، بهتت نظارتها وشحبت في عيوننا ، ها هو القدر بتربص ثانية ليهز كيان جدتي هزا ويعيد لها الأسى مجددا، فبعد مرور عشر سنوات إلا قليلا على اختفاء “خالي علي” عاد طقس الحزن يتجدد ويصيب هذه المرة ابنتها آمنة خالتي الكبرى.
كان يوما هادئا، بعد أن رجع زوج خالتي الحاج إبراهيم الصفار، مع ابنه الصغير مهدي ذي السبع سنوات من المزرعة عند مغيب الشمس تاركا ابنه الأكبر لوحده، ظل علي في المزرعة وحده بحجة ترشيف و”تنفيع الحمارة” رفيقة درب الفلاحة.
وفي البيت اجتمع شمل العائلة لتناول وجبة العشاء، وبعد أن فرشت سفرة الخوص ووضع عليها صحن الرز المزين بالدجاج البلدي، مدت خالتي آمنة يدها لتلتهم أول لقمة، لكن أعادتها للصحن، أحست بقبضات تعصر صدرها، تبدل مزاجها ضد الأكل، خاطبت زوجها: “مو كأن علي تأخر الليلة فوق اللزوم، أحس كأنه حصل لولدي شيء” رد عليها بهدوء تام: ” أبو حسين ما فيه إلا الخير والعافية، الحين علي جيه،اصبري، يمكن الحين جاي في الطريق، بعد شويه بتسمعي حسه ودخلته الباب”، لكن الوقت طال والمدة الزمنية المقدرة زادت كثيرا، بدأت الهواجس والشكوك تحوم في رأسيهما، ذهبت خالتي مع زوجها مشيا على الأقدام وحين وصلا، كان كل منهما ينادي “علي.. ياعلي ..علي” صدى يتردد دون جواب، فتشوا العشة والعريس وخلف النخيلات، وبجانب “الحضار” وعلى طول امتداده في الخلف والأمام، ثم دخل والده الزريبة فيا للدهشة ما رأى، وجد ابنه ممددا على ظهره،لا حراك، صرخ لزوجته، وأتت في جنح الظلام، نادوه، قلبوه “ولدي، علي اقعد من النوم ويش فيك تعبان” لكن لا حياة لمن تنادي، هزوه بقوة، لا نبض، لا نفس، لا دقات قلب، خالتي حضنت ابنها وهي تضرب على رأسها في صراخ مدوي، “ولدي.. ولدي” حملوه ومددوه داخل صندوق القاري تجرهم الحمارة، يقطعان دربًا أصبح موحشا، كئيبا، وسط ظلام مخيف، خالتي تلطم على صدرها بعزاء ليلي تلاحقهم في الخلف حراك العواوي والكلاب بنباح وعواء، وصلا إلى بيتهما العشيش الكائن في أقصى شرق فريق الأطرش، تحول البيت لمأتم عزاء، هبوا سريعا إلى عيادة الدكتور عبدالحق الغلايلي الكائنة بالدشة الجنوبية، أحضروه للبيت، وبعد معاينة وفحص أخبرهم بأسى وهو يقلب رأسه “البقية في حياتكم الولد أعطاكم أمانته، لقد فارق الحياة بسبب أزمة قلبية”!
تحول البيت إلى مأتم، وصراخ النسوة هز بيوت وطرقات فريق الأطرش من أقصاه إلى أقصاه، حملوه ثانية على “الگاري” ومددوا الجثمان في حسينية “آل حبيب”، وقارئ القرآن يتلو سورا على روح شاب كان مهيئا للزفاف.
أي حلم راود الفتى في آخر ليلة من حياته، حين هبطت سفينة وسط مزرعته وناداه المنادي يا علي تعال اصعد معنا، ثم طارت به إلى السماء وهو ينظر للمزرعة من عل، حلم قصه على والدته ورأت عيناه تفيض دمعا، حينها استشعرت من وراء الحلم شيئًا من دنو الأجل ! إنه حلم مودع.
في صباح اليوم التالي شيعه رجالات وشباب الفريق، إلا خالي حسين لم يقو وقوفا وليس له قلب أن يرى ابن اخته محمولا على النعش، يسمع التهليل والتكبير، فيسقط أرضًا، يمسكه الصحب، ويتحامل على نفسه، أتعبه البكاء وخارت قواه، ولسان حاله “أخوي علي ضاع منا وولد اختي علي راح عنا، ويلي عليكم يا لشبان” وينزل ضربا على صدره بقبضة يده، عزاء ولطم وجو مكفهر بين دروب فريق الأطرش.
باتجاه المقبرة. كنت أقول في خاطري: بالأمس سبقتني يابن خالتي جريا وطرحتني أرضا، واليوم تسبقني أجلا للثرى، ووري الشاب السعيد في مقبرة تاروت سنة 1976 م عن عمر 18 عاما.
كان علي أشبه بورقة ربيعية خضراء سقطت من شجرة الحياة قبل أوانها، خالي وابن خالتي “العليان” حب والدتهما لعلي لايوصف وتيمنا بعظمة هذه الشخصية، أطلقا أسماء أكبر أولادهم باسم الإمام علي، حشرهما الله مع آل البيت في نزل عليين ومقام كريم.
كل ضنى عزيز والفقد موجع، مؤلم، جدتي ابتليت بالفقد وخلفتها ابنتها الكبرى خالتي آمنة بكثير من المرارات والمصائب، فقد عصرها الفقر وموت الأولاد، حيث فقدت سبعة بأعمار مختلفة آخرهم زينب سنة 1990، التي تماثلني في العمر وأنا الوحيد الذي سحبت جثمانها من ثلاجة الموتى بمستشفى القطيف المركزي كنت أقرب الناس إليها في تلك اللحظة ليفتح أمامي وجهها للتأكد من هوية المتوفي، ظل هذا المشهد يؤرقني لسنين عديدة، بكيت بحرقة لحظة النظر لملامح وجهها الصامت صارخا بين الجثث المجمدة “وداعا يا رفيقة الطفولة”.
جدتي وخالتي، شكلا الأسى ملامحهن وهن في عز الشباب، وكأنهما منذورتان للحزن، بعد رحيل ابن خالتي عن الدنيا أصابت أوجاع الفقد والده في مقتل، فقد هجر المزرعة -نخل الدهان- فلم يتحمل الوقوف فيها ساعة، راح يشتغل في مهنة “الصخين” بالأجر اليومي، لكن بعد مرور 8 سنوات استأجر نخل “خليف” بعد أن كبر أولاده الثلاثة مهدي ومحمد وعبدالله، اشتد عودهم فشكلوا قوة عمل ضاربة في حب الأرض، فغيروا الوضع من حال إلى أحسن حال، وكما يقال في الحركة بركة، امتد النشاط باستئجار نخلين آخرين “أرض لحسين” عام 1987 وأيضا نخل الشمال “مخيزيمه” 1991، توزع الجهد على ثلاثة معامير في وقت واحد، حماس بثه الحاج إبراهيم الصفار عاشق الزراعة في دماء أولاده وظل يتنفس حب العمل إلى آخر يوم من حياته، إلى أن وافاه الأجل المحتوم عام 2012 عن عمر ناهز 84 عاما قضاها مكافحا وسط المروج الخضراء.
ظل الوحيد راعي هذا الإرث الزراعي ابنه مهدي القائم حاليا على نخل “مخيزيمه”، وأبارك لابن خالتي تشبثه بإحياء الأرض فهو يحمل أصالة الأجداد وذكرى الطيبين.
ورحم الله أباه الحاج إبراهيم الصفار الذي أفنى عمره في عمار مزروعات فريق الأطرش منذ أن كان صبيًا.
ورحم الله جدتي ليلى التي ودعتنا عام 2000 عن عمر ناهز 84 عاما، فقد كانت خيمتنا التي آوتنا من وحشة الحياة وآنستنا مسرات وأفراح واحتوت أنيننا ونزقنا، وربت أحفادها في وئام وعطف وحنان، وأفاضت علينا قصاصا بسيل من الحكايات الغرائبية والموروثات الضاربة في القدم المطعمة بالأهازيج والأشعار، وأهدتنا قطعا من جمال فنها عبر حياكة البخانق والبقشات الموشحة بالزخارف المتحركة إبداعا على الأقمشة الملونة.
ورحم الله كل أزواج بناتها، وأطال الله في عمر خالتي آمنة، وزليخة وزهرة والوالدة وخالي الوحيد أبي علي حسين هبوب، ورحم الله المؤمنين والمؤمنات.
إيه!! يا فريق الأطرش بالرغم مما بشرتنا بالأحزان لكنك للأفراح عنوان، ونعرف حق اليقين بأن الحياة أوجاع ومسرات وأحزان، فراق وولادة، تذهب أنفس على امتدادات الفصول وتأتي أخرى، وهذا حالنا في الدنيا نسلم بقضاء الله وقدره.
بين ربوع فريق الأطرش ثمة حكايات لم تدون، أتتبع خطى أهلي ومن أتوا قبلهم وبعدهم على هذه الأرض الطيبة، أستحضر معهم أشجان الذكريات الساكنة والمتحركة بين فيافي وسواقي النخيل، منادات بوح يتدفق أنسًا وانشراحًا، سرد معزوفات على شرايين القلب، وحنينًا طاغيًا لمكان آسر، يزهو بغطائه الأخضر وشموخ أشجاره الوارفة، فيض حكايات لمن أفنوا أعمارهم لإحيائه، ووفاء لحيواتهم، سيظل سجلهم نابضًا في القلب، حيا في الذاكرة يتحسسه كل محب لهذه الأرض الخصبة بالخيرات والطيبات.