حسن الصفواني.. سيرة نائية وقصيدة باقية

لم يذكر التاريخ إلا النزر اليسير عن الشاعر الشيخ حسن بن صالح الصفواني ، فقد أورده الشيخ علي المرهون في كتابه (شعراء القطيف) ضمن أعلام القرن الثالث عشر الهجري ووصفه بالأديب الأريب ، التقي من الرعيل الأول من رجالات الدين ، مؤرخا وفاته عام ١٢٧١هـ على حد التقريب. وقد نقل تلك المعلومات المحدودة السيد جواد شبر في موسوعته (أدب الطف) ، وكذلك الشيخ صالح آل إبراهيم في كتابه ( صفوى .. تاريخ ورجال ) ، أما موسوعة البابطين للشعراء فقد ذكرت ترجمته باسمه الكامل : حسن بن صالح بن حسين بن علي آل إبراهيم الصفواني ، وأشارت إلى عام وفاته ١٢٦٨هـ خلاف ماذكر في التراجم السابقة . وقد وصفت (البابطين) قصيدة الصفواني بـأنها ” طيعة القوافي منثالة المعاني، مؤثرة في سياق موضوعها، تصف حالات وترسم صورًا طريفة.. ” وأوضحت الموسوعة إشكالها على بعض الأبيات المضطربة خاصة في القوافي ؛ وذلك يرجع – فيما أرى – إلى نقل القصيدة غير الدقيق ، وإلا فالقصيدة في عمومها متماسكة البناء، بالنظر إلى لغتها وأسلوبها وحقبتها التاريخية.

وقامت مؤخرا موسوعة الإمام الحسين ( ع) الإلكترونية التي تشرف عليها العتبة الحسينية المقدسة بإضافة نبذة مختصرة مع القصيدة النونية التي تعتبر آخر ماتبقى من آثار هذه الشخصية.

اليوم وأنا أعيد قراءة هذه المرثية التي اطلعت عليها لأول مرة منذ ٣٠ عاما ، أتساءل : ما الذي يجعل قصيدة تخلد دون غيرها ؟ بالطبع هناك أسباب متشعبة جدا لكن كاريزما النص هي التي تحدد مقروئيته بالقفز على أسوار الزمن ، هكذا يرحل الناص وربما ينسى ولكن يبقى النص خالدا وشاهدا ، وفيما يلي مجموعة من النقاط أسجلها تأملا في جماليات هذه القصيدة :

١- جمالية المطلع :

يحملنا الشاعر الصفواني في مطلع قصيدته على جناحي الجناس التام ( أفنان ) متتبعا أثر الذكرى ، وكأنه بهذه الدوزنة البديعية يتهيأ لمواصلة العزف الشجي في رثاء الإمام الحسين (ع) منطلقا من بيئته المحلية ومن إرثه الشعري العربي :

لـمَّا عـلى الدوحِ صاحت ذاتُ أفنانِ
غــدوتُ أنـشدُ أشـعاري بـأفنانِ

واستأصلَ الحزنُ قلبي وانطويتُ على     أن لا أفـارقَ أشـجاني وأحـزاني

٢- جمالية العرفان :

يبين الشاعر حقيقة وجده الجوهري ، الذي يتخطى الأمور الدنيوية ، فأحزانه ليست نتيجة الرحيل والفقدان ونأي الحبيب وخلو الدار من أهلها ، إنما يكمن مصابه في لحظة كربلاء التاريخية ، إنه يضرب لنا مثالا للتخلي والابتعاد عن الأعراض ؛ ليصل إلى عرفانه المتمثل في حركة الإمام الحسين النهضوية ، هكذا نجده يجيد فن التخلص إلى موضوعه الرئيس بكل انسيابية :

حليفُ وجدٍ نحيلٌ مدنفٌ قلقٌ
فقلّ صبرٌ ، عليلٌ مؤسرٌ عانِ

وذاكَ لا لظعونٍ زمّ سائقها
يومَ الرحيلِ ولا قاصٍ ولا دانِ

ولا لفقدِ أنيسٍ قد أنستُ به
ولا لتذكارِ إخوانٍ وخلاّنِ

ولا لتذكارِ وادي الحرّتينِ ولا
دارٍ خلت من أخلاّئي وجيراني

ولا لبعدِ حبيبٍ كنتُ آلفُهُ
فبان عني وللتعريضِ ألجاني

ولا لدارٍ خلتْ من أهلها وغدتْ
سكنى الفراعلِ من سِيدٍ وسِرحانِ

ولا فراقِ نديمٍ كان مصطحبي
في العلّ والنهلِ عند الشرب ندمانِ

ولا لمائسةِ الأعطافِ كاملة الـ
أوصافِ إن خطرتْ تزري على البانِ

لكنْ أسفتُ على من جلَّ مصرعُهُ
وأفجعَ الخلقَ من إنس ومن جانِ

أعني الحسينَ أبا الأسباط أشرفَ من  ناجى المهيمنَ في سرٍّ وإعلانِ

٣- جمالية التصوير الشعري :

بدأت القصيدة برمزية الحمامة وانتهت بها في البيت الأخير ، وبينهما سلسلة من التصاوير الفنية كتشبيه أبطال كربلاء بالجبال الشماء وبالشهب التي تخترق الحجب، وتشبيه رأس الإمام الحسين بالراهب الذي يتلو القرآن، كذلك نرى تشبيه الشاعر نفسه وهو مضطجع على فراش السقم وكأنه يرعى النجوم الدراري. ومهما التقط الشاعر مجموعة من الصور إلا أنه يعود في قصيدته إلى التعابير المباشرة الاعتيادية فهو يراوح بينها ، وربما كان طول القصيدة هو الذي جعله متفاوتا بين درجات الكتابة، فنراه حينا يخلق صورة داخل صورة حينما يصف مشهد الحرب :

وساق للحرب طرفا كالدبور إذا
ماصالَ فيهم بعزمٍ ماله ثانِ

كأنَّهُ في الوغى بدرٌ على فلكٍ
في كفِّه كوكبٌ يرمي لشيطان

ونراه حينا يتخفف من التصوير ويميل إلى المباشرة معوضا عن ذلك بالإيقاع الذي يحدثه فن ( حسن التقسيم ) مثل قوله :
يابنَ البتولِ ويا سبطَ الرسولِ ويا
فحلَ الفحولِ ، ومن يجزي بإحسانِ

٤- جمالية الذات :

من فرط ما انهمك الشاعر في ذكرى كربلاء ، تمنى لو يكون جزءا من الحدث التاريخي ، بوقوفه مع صف الإمام الحسين ؛ ليؤدي دوره الإنساني في الدفاع عن الحق بصولة قتال وطعان كما يعبر ، غير أن الوقت أخره عن ذلك ، فلم يعد يمتلك إلا الكلمة التي يمدح بها الخير ويهجو بها الشر.

إني وحقِّكَ لوشاهدتُ يومَكَ في
يومِ الطفوفِ مع الأعدا بميدانِ

ركبتُ طرفي وجردتُ الفرند به
وصلتُ صولة قتّال وطعّانِ

لكنْ تأخّر حظّي حين أخرني
وقتي وإلاّ فعزمي غير خوّانِ

إن الذاتية هي التي تجعل القصيدة أكثر حيوية ، فبها يستطيع الشاعر الوصول إلى صوته الخاص ، وبها نستطيع الولوج إلى تجارب إنسانية عديدة.
وفي هذه القصيدة لم ينس الشاعر توقيعه الشخصي بذكر اسمه وكنيته مردوفا بالدعاء، ويبدو أن إثبات الهوية في الأبيات الأخيرة كان عرفا سائدا عند شعراء تلك الحقبة مثل أحمد بن مهدي نصر الله وعلي عبدالجبار واحمد بن طعان وغيرهم.

فما ( ابنُ صالحَ ) يرجو غير فضلكمُ
وإنه ( حسنٌ ) يُدْعى بـ ( صفوانِي)

ثم السلام عليكم ما همى مطرٌ
يوما وما صدحتْ ورْقٌ بأغصانِ

بقيت نونية الشيخ حسن الصفواني في جانب الظل من الذاكرة ، وجزى الله المرحوم الشيخ علي المرهون خير الجزاء يوم أثبتها في كتابه الذي طبع ١٣٨٥هـ ، ورغم سهولة ألفاظها إلا أنها لم تجد منبرا معاصرا يحتويها ويضمن استمرار رسالتها السامية للأجيال ، فقد ظلت معزولة داخل المكتبة ، وبعيدة عن الوجدان الشعبي.



error: المحتوي محمي