فاتنة الظلّ «4»

لم يُخبرها نجيب بأنَّه تقدّم بخطاب إلى جهة عمله يطلب فيه النَّقل إلى مدينته، أرادها أن تكون مُفاجأة لها، اشتاق إلى حنان، معشُوقته، التي اعتاد منها على الإغراق في العاطفة، تائهًا، تُمشط أوجاعه، لتقُوم بتأثيثها من خلال شخصيتها الرّومانسية، تُدغدغ مشاعره، تخلق له أجواء لا يُمكنه تخيلها، إلا أنَّه يتخيلها بعيدًا، ليُبصرها في كلّ الزوايا، شقتهما، التي تزدحم بالنّباتات الطّبيعية، التي تهتم بها، كشيء من أولوياتها، اللّوحات الفنية، تُصافح جُدرانها، كأنَّها تُلقي السّلام، لتتفوه لهما بكلّ الحُب، وتأخذهما إلى تيه اللّقاء عبر كلمات لا تُشبه اللّغة، كوميض، ترتعش الرّوح، إذا مرّت اللّحظات.

هكذا الغُربة، تجعلنا نعيش الشّوق، تضع الذّكريات الجميلة، نُصب أعيننا، نتذوق طعمها، كأنَّها للتو لاتزال تُمارس وظيفتها، للتو تستلذ بالعشق كانسياب قطعة شُوكولاته على ملامحهما المُغرقة بالوقت، واللاوقت، هل نحتاج إلى الغُربة، ليتعمق هذا الشّوق فينا؟ أيكون رهين المسافات البعيدة؟ تقرأ حنان هذه العبارة في قصة “ذلك البعيد” في مجموعة صبا.

ما بين خفقات نجيب، الذي يتناول القهوة في شُرفة حُجرته، ويتأمل حركة السّيارات، وبين حنان، المُستغرقة في قراءة مجموعة صبا، الأرواح القريبة من بعضها، تتخاطر، هذا السّر لا انكشاف له، كيف تحسّ بالآخر، الذي يمتلك قلبك، ويسكن ذاتك، إن أصابه مكروه، ينقبض قلبك، كالأم، التي تشعر بأولادها، إذا ما أصابهم السّوء، كلاهما، يتصل بالآخر ذاتيًا، امتداد خفيّ، كجهاز الاستشعار في الأجهزة الإلكترونية.

في تأنٍ تقرأ حنان، تتأمل كلماتها بدفء التّعمق، ونجيب، يشمّ رائحتها، القهوة من أصابعها الأشهى، ورائحتها في امتزاج رائحة قميصها الأشهى، فالمسافات بعيدة، ولكن القلوب، تتعانق، وصلها إشعار برسالة، رمقت هاتفها المحمول بطرف عينيها، إنَّها رسالة منه، وضعت الكتاب بجانبها، فتحت الرّسالة، وكلها شوق إلى رُؤية ماذا كتب لها، ردًا على رسالتها، التي أشاحت فيها عن عباءة الكلمات، لتبثه شوقها؛ لأنَّها تفتقده، قرأت: وأنا كذلك أحبك، مُشتاق لك، وذهب. اختنقت بعبرتها، كانت ترتجي أكثر من ذلك، أن يُحادثها لوقت أكثر، أن يسأل عنها، عن ذاتها، أن يُبلسم جراح الدّقائق بين عينيها، وخلجات رُوحها المُتعطشة إلى احتضانه، وعن فلذات كبده، أن يُغدق عليها من مشاعره، أن تتعدى كلماته الخمس كلمات، أرادت أن تشعر بالغيبوبة بين همسات صوته.

لم ترد على رسالته، وقفت أمام المرآة، تنظر إلى ملامحها، وتمسح على شعرها، اللّمسات..، تُحاكي حنينها، لماذا أصبحت أمام المرآة، تقف لوقت طويل؟، إنَّها تسأل نفسها دائمًا عن سرّ هذه الوقفة، أظُنني أبحث عنه، عن الشيء، الذي يُشبهني، أينك يا صبا، لم تُحادثيني اليوم فقد حلّ المساء، ولم أصغ إلى صوتك، وكلماتك، التي تبعث الحياة في رُوحي، وتُشعرني بذاتي، تُنعشني، كعُصفورة، تُداعب حُبيبات المطر بحركة جناحيها، وتُناديني بكوني امرأة، تتسلق العنفوان في تجليات الرُوح، في استشراف لحظة الابتسامة من عمق الألم، من صحراء الشّوق، الذي لا تُرطبه نسمات الرّبيع، لقد أدهشتني كلماتك، حكاياتك في مجموعتك القصصية، أراها، تتحدّث عني، هل تتعمدين ذلك؟! أم تُبحرين في الأشياء من خلالي؟ أم تُرانا كلوحة فنية مُمزقة في مُنتصف الألوان، كلّ جزء في مكان ما، احتواه الزّمن، وداعبه الغُبار، إلى أن التقينا، واكتملت اللّوحة بألوانها، واثقة جدًا، أنّي سأسمع صوتك، أو سأقرأ رسالتك. تبُوح حنان بدفء الأمنيات.

مساء الخير، كيف حالك؟ كتبت صبا.

أسرعت حنان إلى هاتفها، فقد وضعت نغمة خاصة إلى رسائل صبا، لتُميزها عن غيرها.

مساء الخير، اشتقت لك، للتو حدثني قلبي عنك، أظن أني ناديتك، فاستفاقت ألوان بشرتيّ بك، طمنيني عنك؟ تسأل حنان.

الحمد لله، مازلت أتنفس، وأنظر للحياة بروح إيجابية، أعيش دقائق يومي في القراءة، وأقتطع بعضها، لأكتب، كم أشعر أنّ الوقت لا يكفيني لأبوح بكلّ ما أريده، ثمّة عمر آخر بداخل عُمرنا، ينبغي أن نعيشه بعيدًا عن ضوضاء هذا الازدحام في ذواتنا. تبوح صبا.

أتعلمين! عندما تكتبين، أراك تُلامسين ما لا أستطيع البوح به، دائمًا أبجديتك، كريشة ألواني، كأنّها لوحة فنية، ترسمينها بكلماتك، لأقوم بنسج ملامحها. تُشير حنان.

ما هذه الجمالية المُغرقة بالدّفء. صبا في حالة تعجب!

تستطرد: أتعلمين كوني قاصة فإنّي أعشق شخصيات ما أنسجه في القصة، أتعلق بها، لدرجة أنّها تسكنني، أشعر بها، كحقيقة، عندما تُغرقني الكتابة، أشعر بكُلّ تقلباتي فيها، يأخذني الإلهام، كبحار، يتلذذ بالإبحار، يتناغم مع هُدوء البحر، مع أمواجه المُتلاطمة، مع تتبع البوصلة، لاستشراف الوصول إلى وجهته، فكلّما كتبت، يُشعلني الظّمأ، لأكتب.

تُصغي حنان، كأنّما أصابها رذاذ من المس.

ما بك، لماذا يحتويك الصّمت، كبرقع، أتقنته أنثى، لتُبصر التلّ في لحظة عابرة، وتُشاغبه، كظلها؟ تستفزها صبا.

لا أخفي عليك، إذا خرجت الكلمات من شفتيك، لا أقوى على قطع ترحالها، أراني أضع خديّ عليها، كوسادتي، تُبللها الدّموع، وتستنطقها الأمنيات.

في داخلي أنثى شيّعتها إلى مثواها الأخير، ونثرت عليها حبات التّراب، أجدني أبكي عليها في كتاباتي، لأفتح النّافذة، وأهديها خيوط الشّمس، لتُظلني، الآن، أجدني لا أقوى على بُعدها، أتُعانقني بعيدًا عن القرطاس، في عالم آخر، لا يُتقن الأبجدية، أن تُحلق بي، حافية القدمين، أسرعت باتجاه خُطواتها، كم أشتاق إليها، إليَّ أشتاق.

بكت حنان! سمعت صبا أنينها، قامت بالتّخفيف عنها، تُلبسها الاعتذار في قلب أنثى أتعبه الألم، تبتعد حنان عن هاتفها المحمول، إلى أين ذهبت؟، صبا تسأل في يقظة من الغياب، ولا جواب، كثير من الأشياء، لا تخضع إلى الإجابة، ليس لأنَّها لا جواب لها، ولكن تعجز الكلمات أن تُوصف التّعبير عنها؛ لأنَّها لا تمتلك ليُونة تجسيدها في الكلم. تئنّ صبا في بُكاء!



error: المحتوي محمي