سيرة طالب (19)

علم الأصول كعجينة في يده

بعد أن سافر أستاذ أبو طه التميمي بحثت مرة أخرى عن ضالتي وهو الاستاذ القدير، فشاءت الأقدار أن نعثر على أستاذ يهضم مطالب علم الأصول ويتقن تدريسها لطلابه بأسلوب يشدّ به انتباه الطالب ويقدّم المادة العلمية الصعبة لقمة سائغة.

فكان ذلك الأستاذ ضمن أساتذة الحوزة الزينبية، فاقترحنا عليه أن يدرّسنا في شقّتنا درساً خاصًّا بمغريات لذيذة، إنه الأستاذ الشيخ محمد رضا الأحمدي، أفغاني الأصل، ولكنّ أكثر حياته في سورية، حي السيّدة زينب (ع)، وهو من العلماء المميّزين جداً في علم الأصول، ولا شك أنه في علم الأصول مجتهد، ومن ثقته بنفسه وتمكّنه من العلم، كان يقول لنا:
إنّ علم الأصول كالعجينة في يدي، ولكن لا تسألني مسائل الفقه، ربما ضعفي فيه؛ لعدم مطالعتي الكثيرة في الكتب الفقهية، وهذا دليل على بطلان أنّ الاجتهاد في علم الأصول ملازم للاجتهاد في علم الفقه، نعم، علم الأصول مقدّمة لعلم الفقه.

وحدث ذات مرّة أن زار الشيخ جعفر السبحاني حفظه الله السيّدة زينب (ع) في دمشق، وقد كان مستقرًّا في قم المقدّسة، وبتلك المناسبة زاره وفدٌ كبيرٌ من العلماء ومن أبناء الجاليات المستقرّين في حي السيّدة زينب (ع)، ومن ضمن هؤلاء أستاذنا الشيخ الأحمدي، ومن الطبيعي أن تثار في مثل هذه الاجتماعات مسائل وإشكالات ومباحثات في العلوم الحوزوية، ومن ذلك ما حدث بينهما نقاش علمي أصولي استهلك فترة ليست بالقليلة، ولما انفضّ النقاش، عقّب الشيخ السبحاني بعبارة كانت وساماً على صدر الشيخ الأحمدي، وزادت من ثقته بنفسه، قال السبحاني:

إنك عالم متميّز، قليل مثلك حتى في قم.
وعلى أي حال فقد درسنا ابشيخ الاستاذ كتاب يسمى (الرسائل)، ولكن الاسم الرسمي (فوائد الأصول) لأستاذ الفقهاء والمجتهدين الشيخ مرتضى الانصاري.

حبائل الشيطان بالمرصاد
سرد أستاذنا الشيخ الأحمدي قصّته على مسامعنا، وفي نهايتها حمّلنا أمانة نقلها لعموم الناس، ولمن يصل إلى مرتبة عالية من العلم ويتميّز فيها، وها أنا أنقلها لمتابعي هذه الحلقات، من باب أداء الأمانة، وتذكرة وموعظة لنفسي قبل غيري من الناس، قال أستاذنا ما نصّه:
انقلوا قصّتي للناس باسمي، فهذه موعظة كبيرة، لئلا يقعوا في حبائل الشيطان!

روى الأستاذ الأحمدي قائلاً:
كنت أيام النشاط في شبابي أتباحث مع طالب علم، وهو سيّد أفغاني، وقد كانت مباحثتنا في كتاب الكفاية في علم الأصول، للآخوند الخراساني.

كنت أتباهى بنفسي في العلم وأعظّم ذاتي، وبالخصوص في علم الأصول، وتظهر هذه الحال من التباهي في مباحثتي إذا تكلّمت بألفاظ جارحة للعلماء والمجتهدين إذا قالوا رأياً مخالفاً لما أتبنّاه، بعكس السيّد الأفغاني الذي كان يعظّم العلماء تعظيماً كبيراً، ولم يقصّر معي، فكثيراً ما كان ينصحني إذا تكلمت بكلام جارح لاذع للعلماء، وقد كنت لا أبالي بالنصيحة، حتى جاء ذلك اليوم كنّا نجلس في صحن حرم السيدة زينب (ع) للمباحثة، أنا مع السيّد الأفغاني، فقلت له بالنصّ والحرف:
اليوم سأكسر رأس الآخوند الخراساني!

تأثر هذا السيّد من كلامي، فنصحني نصيحة لاذعة وفارقني من دون أن نتباحث، وذهب إلى ضريح السيدة زينب (ع)، وبعد خمس دقائق ذهبت إلى الضريح وإذا بالسيّد الأفغاني ملتصق به وهو يبكي بكاء الثكلى، فقلت في نفسي: إن كان يدعو عليَّ، فقد هلكت والله!.

انسحبت من الحرم متّجهاً إلى البيت، ومرّت أيام قليلة جداً فأحسست بصداع شديد لم أعهده من قبل، حتى صرت أنزعج مع نفسي لتحضير الدروس بمرافقة هذا الصداع، ولازمه أنّي صرت أكره التدريس، فذهبت إلى العيادة الأولى والثانية والثالثة؛ طالباً مساعدة الطبيب، ولكن لا شيء يضيء صحتي أبداً.

ثم ذهبت إلى عيادة رابعة بتوصية من أحد الأصدقاء الذين يخبرون طبيبها الماهر في التشخيص ووصف الدواء، فعاين حالتي وشخّص نوعية المرض، وأوجب عليَّ تناول بعض الأدوية، ثم نصحني بنصيحة قاضية كاد بها أن يشقّ نصف جلدي، إذ قال:

إنّ صحتك متوقفة على الابتعاد عن أيّ مطالعة علمية؛ لأنّ الصحة متوقفة على الراحة الكلية، فلا تَدْرُس ولا تُدَرِّس ولا تطالع أيّ كتاب علمي.

امتثلت لنصيحة الطبيب الماهر مدّة استمرّت حولين كاملين، ما أدّى إلى نسيان بعض المطالب العلمية الأصولية، فضلاً عن دقائق ونِكات كثير منها، فاستنتجت مؤكّداً أن السيّد الأفغاني كان في ذلك اليوم يدعو عليَّ دعوة صادقة، وقد كنت أيام شبابي وزهوي بلا ريب قد وقعت أسيراً في فخ الشّيطان.

ثم عاد أستاذنا يؤكّد: هذه نصيحتي لكم نصيحة أخوية، وهي:
حاولوا ألّا تقتربوا من كبرياء النفس، فإنّ هذه السيئة من يقترب منها، سوف يسقط في عالم الدنيا قبل عالم الآخرة.




error: المحتوي محمي