هلّ هلالُ شهر ذي الحجة، وها هم الناس -الذين كتب الله لهم الحجّ في هذا العام- يعدّون حاجاتهم، في انتظار يوم السفر إلى مكة المكرمة وما حولها من أوديةٍ مباركة، أذّن فيهم المؤذن فهم يأتون من كلِّ فجٍّ عميق، مهما تذهب في الحياةِ من سفر، ومهما تزور من أماكن، ليس إلا سفر مكة والحج، هو الذي تُسفر معه أرواح المحبين وتشرق بأنوار ربها.
لم يكتب اسمنا مع الحجاج في هذه السنة، إن شاء رب العباد يكتب لنا الحج في السنواتِ القادمة قبل أن يفوت قطار الفرص، يحرسنا -وإياكم-بعنايته، ويبقينا لنحجّ ونزور تلك الأماكن ليس مرةً واحدة، بل مرَّات! نلبي دعوة إبراهيم “عليه السلام” عندما تسلم هذا الأمر الربَّاني فقال: إن أذاني لا يصل إلى أسماعِ الناس، فأجابه سبحانه وتعالى “عليك الأذان وعليّ البلاغ”! فصعد إبراهيم “عليه السلام” موضع المقام ووضع إصبعيه في أذنيه وقال: “يا أيها النَّاس كتب عليكم الحجّ إلى البيتِ العتيق فأجيبوا ربكم”، وأبلغَ الله عزّ وجلّ نداءه أسماعَ جميع الناس حتى الذين في أصلابِ آبائهم وأرحام أمهاتهم، فرددوا: لبيكَ اللهمَّ لبيك!
أحاول أن أصف رحلة الحج في هذه الخاطرة، لكنني عجزت وقلتُ أدع الوصفَ لخيالكم الطري! كيف يوصف طوافُ الأرواح حول نقطة، هي كعبة للمؤمنين؟ كيف يوصف سَعي بين الصفا والمروة، جبلان شامخان منذ سعت هاجر طلبًا للماء والحياة لها وإسماعيل النبيّ الكريم، فاضت لها زمزم البئر، وأحالت واديًا غيرَ ذي زرع إلى أكرمَ وأقدس وادٍ تطأه أقدامُ المؤمنين حتى يرثَ الله الأرضَ ومن عليها، لا راءٍ كمن سمعا، كيف يستطيع أحد أن يصف وقوف عرفات، فجر مزدلفة، وليالي منى؟ ساعات لا تعد من ساعاتِ الدنيا، إنما هي من ساعات الجنة، لذيذة وشهيَّة، طيِّبة الذكرى.
الساعات الأولى من فجر يوم العيد، فرحة أمٍّ بمولودها البكر! بعد هجعة قصيرة في وادي مزدلفة، يزدلف الحجاج إلى منى، يرمون شيطانَ الهوى والغواية بأحجار الطاعة، ثم يقدمون قرابينهم وذبائحهم، بعد ذلك إما يقصرون من شعورهم، أو يحلقونها، قبل أن ينزعوا عنهم لباس الإحرام. بياض ثوب الإحرام الذي غطى الأرضَ بين الثامن والعاشر من ذي الحجة يعود في يوم العيد إلى طبيعته، ويعود الحجاج إلى ألوانهم التي اعتَادوها.
بعد ظهر يوم الثاني عشر من ذي الحجة، ذلك الجمع والحشد، أغلبه أتمّ مناسك الحج، فيعودون إلى بلدانهم وأوطانهم، وتعود الأودية ساكنةً تنتظر الحج في السنةِ القادمة. حقًّا إنها رحلة إيمانية يتوق لها كلّ مسلم، بعيدًا كان أم قريبًا، كلهم يرددون: لبيكَ اللهم لبيك، لبيكَ لا شريكَ لك لبيك، مظهرين وحدانيةَ الله وعظمته والله مظهرٌ عظمته فيهم.