تأملت كلماتها، سافرت حيث أرادت لروحها أن تكون، تستحضر الماضي من خلال حُروفها، الرّغبة الظّمأى، تُحاول أن تتصور حياتها، كحياة صبا، كيف سيكون موقفها؟ وهي الأنثى العاطفية، التي تنبع إحساسًا وتحمرّ وجنتاها إن سمعت إحداهنَّ تمدحها أو تُسيء لها أو إذا نظرة إعجاب صادفتها ذات لحظة، لتغرق فيها، تتأثر بما يجرى، وكيف يجري.
تناولت من مكتبتها المجموعة القصصية، التي جاءت كباكورة إصدارات صبا، تعمّقت في العنوان، الذي عنونته، بـ”المسافة بين الوجع والإرادة” لتُسطره في “كبرياء أنثى”، تُسقط حنان هذا العنوان تارة على حياة صبا، وتارة أخرى على حياتها، في هذه اللّحظة، تشعر بأنفاسها، تختنق، مُنذ أسبوع أهدتها صبا إصدارها في حفل توقيعه، الذي أقامته في مقهى “كوفي شوب”، وهمست في أذنيها بعد أن عانقتها: حنان أنتظر رأيك، فأنت لن تُبصري أبجدية خرساء، أو حكاية تُلامس الزّمان، أو المكان، أو شُخوصًا واقعية، أم خيالية، ولكن ستجدين صبا، الكائن الحي في قالب الأبجدية، وأرجوحة الحكاية، ستجدين بعضًا من حنان، بعضًا منك، يختصر ظلك وظلي.
أخذته، توجهت إلى حُجرتها، كم تعشق البقاء بمفردها، تفرش أنّاتها كالفضاء، تُشاغبه النّجوم، تُجدف في دُنيا صبا اللا مرئية، اغرورقت عيناها بالدّموع، فور قراءة الإهداء، الذي كتبته في بضع كلمات جاءت كصدمة كهربائية جعلتها، ترتعش: اشتقت إليك بكلي، هنا، كتبتك، لتعود إلىَّ، وأهديتك كلي في نبض حكاية، فهل ستعود إلىًّ؟!
انقبض قلبها، لا تعلم، لماذا أحسّت أن شيئًا ما سيحدث إلى صبا، انتابها الخوف للوهلة الأولى، كأنَّها أغمضت عينيها دون شُعور، لتجدها بابتسامتها العفوية، تُودعها، تبكي حنان، ولا تعلم لماذا تبكي؟
هرولت إلى المطبخ، تناولت قنينة من الماء البارد، سكبتها على وجهها، لتُفيق من هذا الهاجس، الذي داهمها في غفلة من اليقظة، ورمت بجسدها على الأريكة، وهي تُمسك بالكتاب، لتستغرق في النّوم، ولا تزال يديها تُعانق الكتاب، تُعانقه، أيسقط مع مُرور الوقت؟ أم لن تستطيع التّمسك به أكثر؟ أم ستأخذه صبا معها، حيث الأشياء، تُشبه بعضها، إنَّ حنان لم تشعر ذات يوم أنَّ لبوحها من يُصغي، ولوجعها من يُبلسم، ولجُرح أمنياتها من يُفصلها، كشجرة الزّيتون، وإلى من أخذوا قلبها، وضحكتها، وارتواء مشاعرها، ورحلوا، إنَّها لم تشعر إلا بشيء واحد، بغُربتها الذّاتية، بصمتها، الذي يخترقها كلّما اشتاقت إليه، كلّما أرادت أن يكون الكلّ في وجودها، ليكون في واقعه الجزء.
تنحني في مُعاناتها إلى ما يُعبر عنه جبران خليل جبران بأنَّه كارثة، يقُول: كارثة أن يجتمع عقل ناضج وقلب عاطفي في جسد واحد، هنا المُعاناة، كيف لها أن تتصالح مع نفسها، أن تتفهم طبيعة عمله، ألا تنجرف باتجاه ما تُريد، وتنسى الأمل في أن يقترب منها، ألا تتذمر بين الفينة والأخرى، ألا تُتعب جسدها النّحيف من التّفكير فيما سيأتي، وهل سيأتي، ألا تكتم أوجاعها، كي لا تُحمّله فوق همه همًا، وتُضيف إلى غربته التّوجس عليهم، والقلق على وضعهم سواء.
المرأة حينما تعشق فإنَّها تكتم في داخلها كي لا تجرح من تعشقه، الأهم من ذلك ألا يُصيبها المرض، فلا تستطيع التّحكم بأطوارها، وتُطلق لسانها، سليطًا، يُفقده كلّ شيء من المُتعة، الاطمئنان، الصّبر على الألم.
الحياة حُبلى بالغُربة في انتشاء الألم تقُول صبا هذه الكلمات، لماذا تخترقني، الآن، يا لهذه المرأة، استطاعت أن تصهرني في حُبها، لتأخذ حيزًا من دقائق يومي، يُوجد شيء لا أعرف تفسيره، لماذا دائمًا أفكر في كلماتها؟ لماذا ألجأ إليها؟ كلّا انتابتني الغُربة؛ لتكون أنيستي؛ لتكون الضّفة الخضراء، التي أستلقي على عُشبها، لتُدغدغ النَّبضات من نسيم ربيعها.
يا حنان، الآن، أحدّق في ملامحك، لأغرق الأبجدية بك، بي في عينيك. أرسلت صبا هذه الرّسالة إلى حنان عبر الهاتف المحمول، لتُوقظها من دهشة الغياب، والتيه، الذي غالبًا ما يجعلها لا تلتفت إلى حواسها، سوى مشاعرها الفياضة بين زوجها الغائب بعيدًا، بينها وبينه مسافات طوال، ولا يُحدثها إلا قليلًا، وبين صبا التي أصبحت توأم رُوحها، كلماتها، تمشي على رُموش عينيها، كالسحر، يُذيب ثلج الصّحراء من وجنتيها، لتحمرّ، كطفلة، تضحك من فرط المُزاح والمُداعبة.
هل نحن نشتاق إلى من يفهمنا؟ سؤال لايزال يُتعب تفاصيلها برغم ما بيّنته صبا لها، حالة من الفوضى في جنبات رُوحها وجسدها.