كنت أستغرب حينما أشاهد مقاطع كوميدية عن علاقة الآباء والأبناء في الثقافة الأمريكيَّة إبان سنوات الدراسة، أوائل الثمانينات، من ضعف العلاقة بين أفراد الأسرة، حتى وصلنا -نحن- تقريبًا الآن نفس درجة الضعف. الولد والوالد والبنت والأم في علاقة ضيفٍ بآخر؛ هاي باي!
تلك الكوميديا المخيفة، اعتقدتُ أنها فقط وفقط في الغرب، تفصلها عنا بحارٌ ومحيطاتٌ وقِيمٌ أخلاقية. ولم يخطر في بالي أبدًا أن البحار والمحيطات سوف تكون هي من يحمل تلك الثقافة وينقلها عبر كوابل وأسلاك نقلت ما لا يُنقل وحملت ما لا يُحمل من العاداتِ والثقافات.
مع ذلك، لا يجوز رمي الفشل في الحفاظ على القيمِ والعاداتِ والتقاليد الحميدة على اختراق الآخرين لها ونجاحهم في إضعافها، لأن ذلك هو نصف الحقيقة. أما النصف الثاني -والأقوى- فهو أننا أخذنا بمحضِ إرادتنا؛ بعنا واشترينا دون أن يجبرنا أحد سوى الرغبة والشهوة!
في الأدب القصصي العربي حكاية أقصها عليكم مقلوبة: يُذكر أن حمامةً رأت غرابًا يمشي فأعجبتهَا مشيته. فكرت وقارنت بين مشيتها ومشيةِ الغراب، وأخيرًا قررت أن تمشي مثل الغراب. تدربت وحاولت كثيرًا، لكنها لم تفلح، وعندما يئست أرادت العودة إلى مشيتها القديمة، لكنها وجدت نفسها نسيتها أيضًا!
الآن، لسنا حمامة ولا غرابًا، نصف غراب ونصف حمامة! ومن المستحيل أن نعود إلى مشية الحمامة دون إرادةٍ وصبر على تعلم المشيةِ القديمة. أما إذا بقينا نسير على ذات الخطى، فسوف نتقن مشية الغراب الأسود البشعة مبتهجين وفرحين.
حصِّن دارك، علِّ أسوارك ولا تتهم جارك! التربية ليست اختيارًا، بل وظيفة إلزاميَّة! عن الإمام الصادق عليه السلام: “الغلام يلعب سبع سنين، ويتعلم الكتابَ سبع سنين، ويتعلم الحلالَ والحرام سبع سنين”. واحدة وعشرون سنة من العملِ الدؤوب لابد أن تكون كافيةً لأن تشيد في الأبناءِ والبنات بناءً لا تجرفه ولا تغرقه بحارُ الطوفان مهما علت وقويت. وإن فعلت حينئذٍ فنحن معذورون!
أجمل اللحظات حين نكون مع الأولاد والأحفاد ننقل لهم التجارب والذكريات، ونتعلم منهم ما استجدّ في عالمهم منذ أن غادرنا سنوات الطفولة والصبا. صاحبهم تعلم مشيتهم، وكما يقول المثل الشعبي القديم: إذا كبر ولدك خاويه! ازرع في عقولهم القيم قبل أن يزرع غيرك فيها الشوكَ والحنظل!