عقل الناقد

“نعمة العقل” من أكبر وأثمن نعم الله تعالى على الإنسان، فبه يعرف الصواب من الخطأ، وبه يكتشف الحسن من القبيح، وبه يرى الأمور على حقيقتها بعيدًا عن الزيف والتحريف، العقل وما أدراك ما العقل! به يتمايز الآدميون، ويتفارقون؛ فيتفاوتون.

وهب الله العقل لجميع البشر، فكل واحد يمتلك عقلًا يتناسبُ مع استعداداته الفطرية والتكوينية، فهناك الذكي والأقل، والعبقري والأدنى، والأحمق، والعاقل، والسفيه، وغيرهم كثير، متفاوتون في مراتب ومستويات تحصيلهم وتنميتهم لعقولهم، وغالبية البشر ينتمون إلى التحصيل والتنمية المتوسطة، يُعرف ذلك عندما تُرى أفكارهم متشابهة، وسلوكياتهم متماثلة، وأفهامهم متطابقة.

العقل هبة لا تماثلها هبة! إذ كلما علا وارتقى في مدارج الكمال؛ رأى ما لا تستطيع العقول الأخرى رؤيته، واكتشف أمورًا لا تصل إليها الأفهام البسيطة، ومع التمرُّس والتدرب على اكتشاف المعارف والفنون والآداب، عبر دارستها، وإدراك ثغراتها واكتساب العلم بمداخلها ومخارجها؛ تحصل له السطوة والهيمنة عليها، فيكون الأبرز بين الجميع، والأميز على مستوى الحديث، والأنفع عند معالجة المصائب والمشاكل.

الفقيه من جمع علم الفقه وشرائطه وأدرك أسراره وخفاياه، والشاعر من جمع علم الشعر وشرائطه وأدرك أسراره وخفاياه، ومثل ذلك يصدق على جميع المعارف والصناعات والعلوم والفنون والآداب، لا فرق بين نوع ونوع، أو اتجاه واتجاه، فكلما علا العقل وارتفع؛ ازداد فضله، واتَّسع تأثيره، مثلما يُشاهد في عودة الأطباء إلى كبارهم وأساتذتهم، وعودة العلماء والفضلاء إلى الفقهاء المجتهدين، وعودة أهل الصناعة والتجارة إلى الأكثر دراية ومعرفة بأمورها.

هؤلاء الكبار، ومن يُعاد إليهم بالمشورة وأخذ الرأي؛ هم أصحاب العقول القادرة على التمييز والاكتشاف ورؤية الزيف من غيره، وإلا لم تكن هنالك فائدة من العودة إليهم، فجميع هؤلاء (نقاد) في مهنهم وصناعاتهم وفنونهم وعلومهم.

النقاد كثيرون ومتعددون، في كل مهنة وفن تجدهم، لكنهم مراتب ودرجات، بحسب ما يمتلكون من عقل، فأدناهم درجة “ناقد اللغة”؛ العليم بالكلام السائر على ألسنة الناس، أو في بطون الكتب، واللغة بحر واسع يشمل: النحو والصرف واللغة والبلاغة والمعجم والصوت واللهجة؛ أي كلَّ ما يتعلق بالكلمة، مفردة جاءت أو في سياقٍ من سياقات الكلام.

ثانيًا “ناقد الاجتماع والانفعال”؛ الخبير بدواخل الناس ومشاعرهم وأحاسيسهم، العارف بتمايزهم واختلافهم، القادر على رؤية طبقاتهم ومراتبهم، واكتشاف ألفاظهم وأحاديثهم، وما تحويه من تنظيمات داخلية، وعادات قولية، بما فيها من ردود وتحيات، وكيفية نطق، وأساس تخاطب، ومتى يحسن بالمرء الحركة، وأين يجلس، وكيف يتصرف؛ إذا صادفه موقف، أو وقع في مأزق اجتماعي.

ثالثًا “ناقد الحال والمقام”؛ القادر على تمييز وإدراك الإشارات الحسية واللغوية والسلوكية في مواقف الناس وتصرفاتهم، فيتناول بالتحليل أفعالهم الاجتماعية، وسلوكياتهم داخل المدينة، أو عبر الأرياف والصحارى، أو داخل المساجد والمجالس، مستعينًا في ذلك بما اكتسبه من قدرات لغوية (ناقد اللغة)، وأساليب في مقاربة الاجتماع (ناقد الاجتماع والانفعال).

رابعًا وأخيرًا “ناقد الثقافة”؛ الذي تندرج ضمنه الأنواع الثلاثة السابقة؛ حيث يستفيد منها في إجراء اختباراته على جسد الثقافة نفسه، بما هو كلٌّ شامل جامع للمجتمع، وللأمة، أو للقاء ومهرجان حال كون المقاربة ضمن نطاق ضيق ومحدود، فيدرك من خلاله الأسرار وراء التصرفات والحوادث، ليتمكن بالتالي من إبداء رأيه تجاهها، بما يؤدي إلى تحقيق الفائدة القصوى؛ إما ببيان عيوبها؛ لاجتناب شرورها وما يمكن أن تقود إليه، أو بنشر إيجابياتها؛ لتعم فائدتها.

الدرجات الأربع هي في حقيقتها درجة واحدة؛ تتدرج من مرحلة إلى مرحلة، فناقد اللغة يبحث عن الظاهر والمكشوف من الدلالات، بينما ناقد الثقافة يبحث عن المخفي والمتواري من رموزها وأيقوناتها وصورها، وفي حين يقارب ناقد الانفعال المجتمع والفرد في حالاتهم العامة والشائعة، فإن ناقد المقام يقاربهم ضمن حالاتهم الخاصة، وسلوكياتهم داخل حادثة من الحوادث.

لا بد للناقد من عقل يسير به؛ إذ هو سبيله في التمييز وإصدار الأحكام، ومع العقل لا بد له من سعة الاطلاع، وتمرُّس على التأمل في الحوادث والأشياء، وبهذا يرتقي، ويصبح ذا نظر ثاقب، ورؤية سليمة، يفيد بها مجتمعه، ومن حوله.



error: المحتوي محمي