أكثر ما يُوجع الإنسان الذّاكرة، ليس فقط من الذين يسكنون حيثياتها، ولكن الذين يمُرون ذات وميض على عتباتها، لتقف هنيئة، تحمل جبلًا على ظهرك، تشعر أن الحياة، تُختصر حينها، كيف إذا الجزء الكبير من ذاكرتك تفقده، وتحث الخُطوات جاهدًا في ربط درامية ما تعيشه الآن، لتسترجع هذا الجزء المفقود.
أقفل راجعًا، لا يعلم إلى أين يحمله وجعه، أين الرّاحة، التي ينشدها، لتُريحه من هذا الصّراع النّفسي بين عقله وذاته، رفع رأسه، ابتعد عن الولوج في آنية الغياب، ليجد جسده عند المقهى.
توقف، تجمّدت مفاصله، عقارب السّاعة، كسون، نبضاته تتسارع اضطرابًا، دُموعه تجري على خديه، وفي كلّ دمعة ملامحها، وفي الأخرى أبجديتها، أدار طرفه إلى حيث هي، تبقى ملامحك بلسمًا، تُشفي وجهي المُتعب، الآن، أحدّق في ملامحك لأغرق الأبجدية بك، بي في عينيك. همس بحُزن.
لمح الأم، شيء ما يجذبه لهذه السّيدة، مشى خُطوات، لم ينتبه إلى الحُفرة، التي سقط فيها، ليصرخ بقوة، وقعت الصّينية من يدها، هرولت إليه، لحقت بها الفتاة، وكان رجُلان جالسين أسرعا إلى إخراجه من الحُفرة، بين ترقب الأم والفتاة، أخرجاه، فأشارت لهما الأم بأن يضعاه في حجرة ابنتها فادية.
أحضرت الأم جارتها الدّكتورة وفاء، كشفت عليه، أعطته علاجًا، وقالت لهما: لا داعي للقلق فإنَّ وضعه سليم، مُجرد جروح بسيطة، ستندمل مع الوقت.
مرّ قرابة الأربع ساعات، كان نائمًا، فادية تعتني به، جالسة بقُربه، بين الفينة والأخرى، تمسح جبينه بماء بارد، وتُغير له ضماد جُروحه، وبينما هي تتأمله، إذا به يُحاول أن يفتح عينيه، انفرجت ابتسامتها، أسرعت تُنادي على أمها، وقفتا تنظران إليه، فتح عينيه، سألهما: أين أنا؟ لماذا أنا هنا؟ ماذا حدث؟!
أخبرتاه بما حدث، اعتذر لهما، ليُغادر، لم توافقا، طلبت منه فادية أن يجلس في حُجرتها وهي ستنام مع أمها؛ لأنَّه يحتاج إلى الاهتمام أكثر، وافق على مضض، وهو ينظر إلى ابتسامة الأم، وهي مُعجبة بكلام ابنتها.
بعد انتهاء أم فادية من عملها، توجهت إلى حُجرة فادية، وجدتها معه، يتحدثان، وقفت تُحدّق في ملامحهما؛ مُنسجمين، مُتناغمين، بقلب الأم كم اشتهت أن يكون هذا الرّجل زوجًا لابنتها، التي لم تلدها، إلى أنيستها في الحياة، طاف وجه فادي أمام ناظريها، اعتصر قلبها، وجهت كلماتها إليه، لتقطع حديثهما.
بُني، لا أعلم ما أقول لك، ولكنّي أجد فيك وجه فادي، ورُوح فادي، وقلب فادي، وعندما سمع كلمة رُوح فادي صرخ بأعلى صوته، وسقط مغشيًا عليه.
صرخت الأم في ابنتها، لتُحضر الماء، وهي ترتعش من الخوف، سكبت الماء على وجهه بيديها، أفاق، كالصّباح، يفيق من ظُلمة اللّيل، تُنادي حبيبي فادي، ماما، أرجوك لا ترحل، عُد يا حبيبي، لقلبي، استيقظ على نداء ماما، أمعن النّظر في عينيها، أخذ يديها إلى شفتيه، قبلها، احتضنها في صدره، يُمارس الفعل هذا، فقد تحولت هذه الأم إلى صُورته، ورُوحها، كرُوحه، كغيبوبة، تتشابك بداخله الشّخصيات، واللّحظات، فلا يستطيع أن يفُك هذا التّداخل.
خاطبها بارتجاف شفتيه: ماما، هل لديك صُورة إلى فادي، آخر صُورة له، أجابته: نعم، وفورًا طلبت من ابنتها أن تُحضر الصُورة، النظرات، تغمرها الدّهشة، يا تُرى ماذا يحدث؟
الحياة مليئة بالمُفاجآت والتي قد تأتي على شكل ألم، يختزل في داخله السّعادة أو شيء يسير في ذات الاتجاه برغم ارتداد الجاذبية، لتسقط التّفاحة، ونُحلق في الفضاء، لنصل إلى الشّاطئ.
يُمسك الصُّورة ارتعاشة أصابعه تُرهقه نبضاته المُرتجفه تُخنق عبرته في عينيه تضجُ ذاكرته، كالولادة، تحت صُراخ الأنثى، يصرخ ليسترجع ذاكرته مُخاضها وجع، يتأمله في الصُورة بين يديه، يقرأ بشغف الذّاكرة، لم تكن صُورة عابرة، تتمتع بجمالية التقاطها، بما تحتويه من لطف جمالي، ولكنّها صُورة من خلالها تكتشف من أنت، وفيها تعرف من هو، وما بينهما، تُبلسم جُرح هذه الأم، وتُنعش حياة هذه الفتاة، لتطمئن من الزّمان، إذا ما رحلت هذه الأم إلى العالم الآخر، من لها؟
الصُورة ليست شيئًا عابرًا جامدًا في حياة الإنسان إنّها حكايته، شيء منه، لغة قد تفُوق كلّ اللّغات، يهمس، وعيناه تُوزّع سوادها في الزوايا، كطائر أصابه الصّياد في جناحه، فأصبح يتلوى عبر اهتزاز النّجاة، هذا ما قاله لي في آخر لحظة، بعدها غادر بلا عودة، كجسد، هل كان يُريد أن تبقى هذه الكلمات إلى هذه اللّحظة، أن أستحضرها الآن ليجعلني أربط المواقف، وما سرّ فقدان ذاكرتي؟! أمور كثيرة، أراني عاجزًا عن فك أحجيتها.
قالها بهمس بينما الأم وفادية، تنتظران، إنّٓه فادي حقًا، الذي رافقني في الغُربة، لوقت لا يُمكنني قياسه، أو حصر عدد أيامه، وتفصيل حيثياته، فقد تجيء دقائق بسيطة، تكون عُمرًا، تكون الزّمن والمكان، تكون كلّ شيء في حياتنا، غادر بلا استئذان، غادر، ولم يترك لي الفُرصة، لأصغي إليه أكثر، غادر وزرع في ذهنيّ ومُخيلتي كلماته من خلال الصُورة التي كانت الأحجية، لا أعلم لما، وليس وفي أيّ وقت سأفك هذه الأحجية، أهي ترتبط بفقداني الذّاكرة، في جُزء مهم منها، الآن، عرفت لما فقدت الذّاكرة، بعد غيابه، أخبرني صاحب السّكن، الذي كنا فيه، أن صاحبي الذي لم يرض أن يُخبرني باسمه واكتفى بأن يكون رفيقي قد توفى إثر حادث سير، لم أصدق، ذهبت إلى المشفى فلم أجده، بحثت في كلّ مكان، لم أجده، رجعت إلى صاحب السّكن، أخبرته أنّي لم أجده، ليُخبرني لقد رأيت سيارة مُسرعة هذا المساء دهسته أثناء تجاوزه الطّريق، كانوا ثلاثة رجال في السّيارة، ترجلوا، رفعوا جسده المُلطخ بالدّماء، وأسرعوا به، أجدهم أخذوه إلى المشفى، إنّه لم يعُد، افتقدته، وفقدت ذاكرتي معه، لأنّي دخلت في نوبة من اللاشُعور، أقوم بالصُراخ، وضرب وجهي بقوة، مما جعلني بعد الإغماء، مرميًا على السّرير الأبيض، لا أعلم من ذاكرتي إلا الشّيء البسيط، قالوا إنَّه فقد جُزئي، ولكنّي عشته كليًا، فكيف لي أن أفقده في حياتي، كواقع؟! وأفقده في ذاكرتي لأراه رُوحًا يتقمصني؟! وأصغي إليها، ماذا أقول لهذه الأم، وهذه الفتاة عن رُوح فادي، عن كلي فيه، كهمسي، الآن؟ هل تُراني هنا لأكون فاديًا؟ أتكون الرُوح تتلبسني لأكون هو؟ أتحدث بطريقته، أتنفس، كأنفاسه، أعشق أمه، كعشقه، وأهدي فتاته قلبي، كقلبه، لم نكن مُختلفين، بيننا تشابه كبير لحد الانصهار، الارتباط ذاتيًا، النّحيب، يخترق المكان، الدّموع، تُؤثثه، لا أعلم؛ هل أواسيهما أم أواسي ذاكرتي التي رجعت من سفرها الغياب لتستقر في ذاتي تُرهقني؟