أنا مبدعـ«ـة» يا أبي فاحتضنِّي

ما أكثر المواهب في بلدي! من الجنسين، فلا فرق في عالم الإبداع بين ذكر وأنثى، فتى وفتاة، فكل مَن يمتلك موهبة؛ إنما هو إنسان غير خاضع لتصنيف الجنس والجنسية والانتماء والزمان والمكان والدين، فالمتنبي مبدع، وكذلك هوميروس، وأيضًا شكسبير، والخنساء، وفرجينيا وولف.

“الموهبة من الله”؛ كلمة خادعة يتوارثها المجتمع دون أن يعي خطورتها، فالموهبة استعداد فطري، يتم تنميته بالتدريب والممارسة، وهي في كل فرد درجات، بعضهم يرتقي بها، والآخر يهملها؛ فتذوي وتضيع، وتظل الجريمة الكبرى؛ هي إهمال المجتمع الأبوي لمواهب الأبناء، فتيات وفتيان.

“كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته”؛ الدين يحث المرء على رعاية مواهب أبنائه، ويخاطر بإخبارنا أن الأبناء “ولدوا لزمان غير زماننا”، حيث يعلم؛ أن المرء لا يتقبل الاختلاف، وخصوصًا اختلاف الأبناء عن الآباء، فنحن نسير على طريقة واحدة، نريد من أبنائنا أن يكونوا مثلنا، وهي الرغبة القاتلة لكل موهبة.

“الاختلاف عن الآباء”؛ هي الحقيقة التي ينبغي الإيمان بها وبجدواها، فما فائدة الوقوع في أسر التكرار والاجترار؛ تكرار الأفكار واجترار السلوكيات، دون أن يتمكن المرء من التفكير والاستقلال برأي، أليس هذا سبب بلائنا الكبير؟! أننا لسنا على استعداد لتقبل هذا المختلف، حتى لو كان واحدًا من أبنائنا.

كم دمَّرنا مواهب أبنائنا بأنفسنا وقتلنا الإبداع داخلهم بحجة الحفاظ على التقاليد والعادات، أليست هي حجة المشركين في رفض دعوى النبي (حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا)! التي حاربها الدين ومقتها وسعى إلى تغييرها (أولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئًا ولا يهتدون)، ولكننا دون أن نشعر، نعيد اجترار سلوكيات المشركين نفسها، فنمارسها على أبنائنا متسببين بقتل مواهبهم.

متى تدركون -أيها الآباء المحترمون- أن الموهبة ليست عيبًا أو حرامًا أو فعلًا مشينًا! “الموهبة نعمة ربانية” أسبغها على عباده، فجعل لكل واحد نصيبًا منها، وصاحب الحظ الحسن مَن يجد لديه أبًا رائعا يعمل على الاهتمام بها وتنميتها، أمَّا التعِس البائس فمن يجد أباه يحقِّر من شأنه، بل ويعنفه ضربًا وشتمًا؛ لمجرد رؤيته وهو يمارس موهبته.

هل نكره أنفسنا وأبناءنا إلى هذا الحد؟ بل وأكثر، فقتل المواهب هو الفن الذي نبرع فيه، ولا يهنأ لنا بال إلا حينما ندفنها في التراب، فنجعلها طي النسيان بحجج واهية ومردودة، كما يفعل المشركون من وأد البنات بحجة الخوف من العار، فهل بناتكم عار، وهل مواهبهن عورة، وهل أنتم مثل أبي جهل؟

أجل نكره أنفسنا وسنظل نكرهها ولن نتهاون معها؛ لأن محبتها غائبة عن حياتنا ومعيشتنا، وكم لنا في الخطباء والوعاظ من أمثلة على كره الحياة ومقتها وتمني الموت والسعي إليه، فهم لا يذكرون إلا “محاسن موتاكم” أما الأحياء فطي النسيان، وخارج التاريخ، ولا يتم الحديث عنهم.

المتدينون والوعاظ هم من يقومون بتربية المجتمع، فإذا كان خطابهم يذم الحياة ومباهجها، فالأولى بالمجتمع أن يستمع ويطيع، ويمنع أي موهبة من الظهور، فالموهبة في أكمل تجلياتها تعني الاحتفال بالحياة.

فلنحتفل بالحياة، جميعنا في حاجة إلى الاحتفال؛ لأجل أنفسنا أولًا، ولأجل أبنائنا ثانيًا؛ نحتفل كي نخرج من أسر الموتى وسيطرتهم على حياتنا، ونحتفل كي نستعيد إنسانيتنا التي شوهها المتكلسون المتحجرون أصحاب وأد الإبداع والموهبة.

فلنحتفل ولا نخجل، ولنحتفِ بالإبداع والموهبة، فهما الجائزة الحقيقية التي يخرج بها المرء من الحياة.



error: المحتوي محمي