أزاح عن وجهه غبار الوقت، واتخذ من اليراع أنيسه، ليبعث إلى ذاته الحُلم، ليُسطر على الرّمال أحلامه، يتشبث بالأمل، عساه أن يُحلّق بعيدًا حيث يُعانقها في همساته، يُرطب وجعه في الأمنيات، التي لا مفر من انعكاسها على المرآة، نُعاس، يجتاح الوقت، تبلد، يتسلق الأمكنة، ضحكتها كون من الرّعشة تجتاحه، كأرجوحة الأطفال، تُرجعه إلى براءة الأبجدية، تُوقظه من الحُلم، كطفلته المُشاكسه، التي تنتظر عودته، لتستفز ضحكته.
هل أحسّ بطفلته ليلى، الآن، وهي تُنادي عليه بين يديّ أمها، التي أضناها البُعد؟ احتضنتها بحنان.
الطّفلة، تبكي، تبكي اشتياقًا إلى والدها نجيب، قامت حنان تُمسد شعرها، لتُغمض عينيها، لتُشبع طُفولتها بالحُلم، نحن كالأطفال يُؤنسنا الحُلم ويُنعش الدّقائق، أعدني يا أيُّها الوقت إلى طفولتي البريئة، إلى حضن أمي، لتُصفف شعريَّ، وتُلبسني القميص، لأذهب إلى الأطفال في بيت جديَّ وألهو؛ تهمس حنان في داخلها.
حملت ابنتها إلى حُجرتها، ذهبت إلى المجلس، تنظر إلى مكان جلوسه، إلى مكتبه الواقع في الزاوية اليُمنى منه، تنظر إلى أوراقه المُتناثرة، منديل نظارته الأسود، تناولته، عصرته في يديها، كأنَّ قلبها، يعتصر الشّوق في هذا المنديل، لعله يُوصل أنفاسها إليه، شكواها من حمل المسؤولية، الألم، الذي أصبح لا يُفارقها.
هل ثمَّة علاقة بيننا وبين الأشياء من حولنا؟ هل تُسكب مشاعرنا على هذه الأشياء، لتجعل لها حيوية، حياة برغم كونها لا تمتلك صفة الحياة؟ تسأل حنان.
رفعت هاتفها المحمول، وما زالت في المجلس، طلبت زميلتها المُقربة صبا، وبعد التّرحيب بها، أخبرتها عن ماهية هذه العلاقة بيننا وبين الأشياء لتُجيب صبا: نعم يا حنان كلّ الأشياء من حولنا تنتمي لنا تتأثر بمشاعرنا بظلنا! ألم تسمعي هذه الجملة: إن لكلّ امرأة نفسًا في الطّعام، النّفس هنا، يأتي بكون المرأة، التي تقوم بإعداد الطّعام، فإنَّه يتأثر بها بحنانها بلطفها، وبكلّ مشاعرها، وما تشعر به أثناء القيام بذلك.
أعلم ذلك، صبا إنّي أعاني من غيابه، المسؤولية كبيرة، الشّتات، يأكلني، فلا أعرف ما ينبغي، وكيف عليه أن يكون! المشاعر مُختلطة، أحتاجه أكثر مما مضى، كلّ يوم يمرّ، ينهشني الأسى بأظافره، أصبحت عصبية المزاج، كلي اشتهاء لكلماته الحنونة، الدّافئة، أتعلمين أنّي مُنذ قليل، كنت في شوق جارف بأن يحضنني، أن أبوح له بما أعانيه، لا نتواصل كثيرًا من خلال الهاتف المحمول، وإذا تواصلنا، يكون لبضع دقائق، لا أجد أني فيها أنثى، كأنَّ الحديث بيننا مُجرد من العاطفة، كثيرًا أخالني في اشتهاء أنثاي في داخلي أن أبحر في اشتياقاتها، يُغدق على أنفاسها المُلتهبة شوقه، الأنثى، يضنيها ألا يُعبر الرّجل عن شوقه لها، عن عشقه، عن لهفته، ليتركها تُصارع الرّغبة في اشتهاء اللّحظة، في الإصغاء إلى ما وراء عينيه، تقول حنان بألم.
أشعر بك يا توأم روحي، إنَّها مُعاناة، لطالما نهفو إلى الإحساس بالعاطفة، الاهتمام، الذي يجعلنا الأشهى، كالفراشة، تزهو في رقصها فوق الزّهور.
أنت يا حنان، ما يُزعجك، هو غياب زوجك، بحكم طبيعة عمله بعيدًا، وهذا أمر ليس بيده، وقد تُغمضين عينيك، وتجدين مُعاناتك، تُعانق نشوة الانتهاء، ويُنقل إلى منطقته في أي وقت، ما حال من لا تمتلك قلب زوجها، لا تجده ملكها، لتُشاركه امرأة أخرى.
من يُبصر مُعاناة غيره تهون عليه مُعاناته؛ تقُول صبا.
لأول مرة أراك حزينة في مُفرداتك يا صبا! تُخاطبها حنان باستغرابنعم، لأول مرة أبوح، أنت ترينني دائمًا سعيدة، لدي اهتمام بكُلّ شيء، أخلق لذاتي السّعادة، فالحُزن والاستسلام له مُؤلم، يأكل العنفوان في ذواتنا، ينهش نضارتها، لهذا جلست كثيرًا أفكر في علاقتي به وكيف لهذا الرّجل الذي أحببته من أعماق قلبي ليس لي بكله، مشاعره، قلبه بيني وبين أمه إنّها تُشاركني فيه تتحكم به في كلّ شيء، لا أنكر ولا أرفض وجودها في حياته، للأم مكانة رفيعة، لا يمكن جحودها، ولكن أن تتجاوز الحدود، فلا تعد لعلاقتي بزوجي خصوصية، لتفرض رأيها، ونحن علينا أن نتوجس أي شيء من أجلها.
لا أخفيك يا حنان، في بداية زواجنا، تعبت كثيرًا من هذا الوضع، حاولت مرارًا أن أتقرب منه أكثر، أن أسعد أمه، لكي يرضى، تحاملت على نفسي، ولكن دون فائدة، إنّٓه مُتقلب المزاج، لا يُريد أن يُغضبها، يتوهم أنّٓه ينبغي عليه أن يُشركها في تفاصيل حياتنا ظنًا منه أن ذلك واجب عليه، حتى في تدخلاتها المُتكررة في لبسي، ووظيفتي، وطلباتها غير المنطقية، وفي المقابل، يُطالبني بالصُمت، وعدم التذمر.
دائمًا كنت تسألين عن سرّ اهتمامي بكُلّ شيء، عن هذه الجمالية، التي أعيشها في تفاصيل حياتي، عن تنسيق مكتبي، عن بشاشتي، عن الأزهار في زوايا منزلنا، في زوايا مكتبي، عن رائحة العطر الفواح في سيارتي، عن اقتنائي التّحف، عن اللّوحات التشكيلية التي اشتريتها لتزين منزلي، عن كلّ الأشياء التي أثارت إعجابك واستفزت عينيك العاشقة إلى الجمال، الآن أخبرك السّر! كلّ هذه الأشياء، التي أقوم بها بحُب لأنّي أنقب من خلالها عنه، أعيشه في داخلها، أعوض بها هذه الفجوة، التي بيننا، خلقت منها عالمًا يُشبهني لأتقاطع معه، لأصغي إلى صوته، وأشم رائحته فيها، نحن يا حنان، كالجُزء في الشكل الهندسي، يكتمل بالأجزاء الأخرى، كالحديقة الغناء لا استغناء فيها عن الزّهرة الحمراء، عن العُشب الأخضر، عن الأطفال، يلعبون، يمرحون، نحن نقرأ، نحن نكتب، نحن نعمل، لنكتشف ذواتنا، نجد السّير عن الأشياء الأمكنة، الزمان، الذي يُشبهنا.
تتنفس حنان بصعوبة، هل تُشاركها البُكاء، أم تكتفي بالبُكاء في داخلها، كعادتها لا تُفصح عن مشاعرها، لأقرب النّاس لها، حتى أهلها، أم تُطلق العنان، وتبوح، لتبكي؟
أفاقت صبا من حالتها البُكائية، التي تُشبه الغيبوبة، واعتذرت.
استجمعت حنان قواها، وقامت بمواساتها، طلبت منها صبا الانتهاء من الحديث، وذهبت لتظلّ حنان تتأمل كلماتها.