قراءة جمالية لديوان ” مرايا الماءِ والرماد ” للشاعرة نورة النمر .. أطياف 2018م .
تعبنا مِنَ الصمت رغم الكلامْ
متى ياترى يُختم المشهدُ
وفي كلِّ أفقٍ ضجيجُ الحياةِ
ينادي بنا ..
غردوا ..
غردوا ..
تراودُ قلب القصيدة عن نبضه ، وتكشف عن ساق المجاز من دكان خيالها تبتاع طعمَ نبيذِ الكلام ، وتجمع الصمت في محراب دهشته حيث تتقمص حقيقة المجاز، فتجتاح صوت الماء حين يتكلم، هواجسها مفتونةٌ بالغياب منتظرة هذيان الفصول التي تفتش عن دمعتها في السحاب مفترشة بساط الذكريات ، تخبئ في أضلاعها ناي الحزن وتسكب أوجاعها في نغماته ، تقيم ترتيلتها في قلقِ الهوى يحمحم صمتها ، ولهاث صبرها يحلُّ قناعها تستلُّ سراب ضياعها من صهيل يراعها ..
كقدِّيسةٍ تفتش في بهجة الكون عن نخلة في مكانٍ قصيّ تجيءُ بقلب نبيٍّ وقد حملت أمنياتِ الجياع لكي تنجبَ الحُبَّ للعالمين بشكلٍ جديدْ ..
فالقصيدة عندها .. تبدأ بالجنون وتنتهي بالسحر ..
توزع أسئلتها في الوجوه امتثالاً لزيف الحياة ، وتقرأ في خرائط الحزن أعين العابرين ، سمّر الجرح في العناءِ قصيدتها .. وتطحن رحى الأيام أحرفها وتريق مُرَّ الشعر مِنْ شريانها تهزُ جذوع الحبّ في شجر الكتابة فيسَّاقط ثمره ليهديها الغياب .. فمن أوهامها تقتاتُ نارُ الشعر .
سكرةُ الوقت ظمؤها المنتشي كرماد هكذا هي شاعرة المرايا السيدة نورة النمر .. بدت في مجموعتها ( مرايا الماء والتراب ) ..
تجمع في سلالها عدةَ ثمارٍ وتضمُّ في تجربتها نماذج مِنْ مدراس أدبية متنوعة وهذا دالٌّ على تشكل الذائقة وتنوعها واستلهامتها لكلِّ ما يخدم ويُنمّي التجربة الشعرية ، فالشاعرة هنا مزيجٌ مِنْ ظلالٍ وأضواء وبعض مديات الذات المستقلة كما إنها اتكأت على مجموعة من التقنيات الفنية والرؤيوية في محاولةٍ لرفد المنجز الشعري لديها بأدواتٍ مضادَّةٍ للعدم والتي تحفزُّ القارئ للوقوف عند بعضها ومحاورتها والانفتاح على حرائق الأسئلة وقلقها ..
سنحاول هنا أولاً .. استكناه عدة مفاهيم لنتعرف على وجهة نظرها مِنْ الناحية الشعرية :
• فماذا تعني لها الكتابة ..؟!
تقول في مفتتحها ..
” كلما كتبتُ قصيدةً .. نبتت في قلبي حُقبةُ بهاء ”
الكتابة بوابةٌ لأزمنةِ ثانية ” ص7
الكتابةُ عبورٌ لأزمنة إضافية .. والأزمنة تكتب لحظتها .. يقول الشاعر العراقي حميد سعيد ..
” إنَّ الشاعر ليس فيلسوفًا ولا مفكرًا ، حتى وإن شكلت الفلسفة مقومًا أساسيًا مِنْ مقومات ثقافته ، واتسعت هذه الثقافة ، بل لابد ان تتسع في انفتاحها على الفكر ، بل هو مبدع لا حدود لإبداعه ، ينتسبُ إلى حرائق الأسئلة لا إلى جليد الإجابات ”
وهذا ما تؤكده الشاعرة في قولها :
المزاريبُ شراينيك .. والريحُ سؤال عالقٌ في اللا جواب ” ص43
والكتابة عندها تصل إلى اللامدى واللاحدود وإلى جنون السحر تقول نورة النمر :
” بالأمسِ كتبت قصيدة شعر.. أولها بوحٌ مجنون وآخرها سِحْر ”
وهي رؤيةٌ ناهدةٌ للتطلع الأجمل والمفارق والمختلف كما يؤكد الشاعر حميد سعيد أيضًا بقوله :
” إنَّ أسوأ التجارب الشعرية هي تلك التي لا تشاكس ولا تتمرَّد ولا تثير الخلاف في الوسط المتلقي ، قارئًا أو مستمعا أو ناقدًا ، وتكتفي بالرضا الذي تُوجه به ، مِنْ قبل الذين يسعدهم تلقي ما يعرفون ويستنكرون ما يفاجئ وعيهم ويبتعدون عنه ”
وتمضي الشاعرة أن الكتابة لديها تختلف في بعض مدياتها ” الرحيل الأخير .. كتبنا به آخر اللحن ..”
والهدف هنا هو تحويل اللحن والصوت إلى حروف مقروءة أو مجاز واعٍ أو نصّ مؤوَّلٍ ..
وتقول أيضًا :
رغم اخضرار الوقت لم تورقْ فما
رغم انسكاب العطر لم أكتبْ ظما
مازالت تُصرُّ على أنها لا تكتب شيئًا عاديًا فهي تحاول أن تكون كتابتها معبأة بالدلالة والرمز والمجاز ..
الكتابة تهديها للغياب أي اللغة المؤجلة أو الدال المرُمَّز تقول :
هنا قد هززت جذوع هذا
الحبِّ في شجر الكتابة
فا ساقطت ثمراتُهُ
لكنْ لِتُهديني غيابه
وهذه التقنية التي تجعل من القارئ متحفزًا للبحث والترقب يقول الشاعر قاسم حداد :
” الكتابة عربات ضوئية لارتياد الآفاق فلا يعود الكتاب محطة في مكان إنه مشهد شاسع عابر يخترق التاريخ والجغرافيا ” ( ص257 يمسحون على شعر العالم )
ثانيًا : المرايا .. وشعرنة المفاهيم :
حين يضعُ الشاعر تعريفًا ما .. أو يوقع صيغةً كشفيةً لمفهومٍ ما فهو لا يؤطره بالمعنى العلمي ولا الاصطلاحي وإنما يحاول أن يسجل شعريته الرؤيوية لهذا المفهوم أولتلك الثيمة .. ومِنْ أجمل ما قرأت في هذه الحالة ما كتب الشاعر الناقد أحمد الستراوي :
” إنَّ كل التعاريف التي عرفت الشعر قاصرة وإن بلغ واصفوها في أناقة الصياغة .. كما هو اليقين أنَّ كل التعاريف صحيحة إلى حدٍّ ما وخاطئة إلى حدٍّ أكبر ..
إذن فاسمحوا لي أن أتجرأ وأضع تعريفًا له فأقول :
” الشعر هو كُلُّ شيءٍ كما هو لا شيء ” (ص331 أولئك المقربيون)
ولكلٍّ شاعر رؤيته وصياغته الفنية والمجازية وسنمر على عدة مفاهيم نلحظ كيف تعاملت الشاعرة معها حسب تصنيفها الشعري ..
شعرنة الصمت .. تجليات الصمت :
الصمت .. لا يعني عدم الكلام .. الصمت قد يكون ضجيجًا صارخًا .. الصمت حالة شجب .. أو حالةُ تأمّل خلَّاقة فاعلة ..
تقول الشاعرة ثورة ..
تعبنا من الصمت رغم الكلام ..
وهنا رؤيةٌ قد تتفردُ بها شاعرتنا في اكتشاف أو إبراز حالة الكلام التي تتساوى بالصمت بل ربما كان الكلام أقل فاعلية مِنَ الصمت إذا لم يكن متساويًا معه ..
– وتقول في موضع آخر :
وأجمع الصمت في محراب دهشته
حيث المجاز حقيقيًّا تقمَّصتُهْ
هل وجدتم مَنْ يجمعُ الصمت قبل هذهِ الشاعرة .. فهي تحاول أن تكوِّن لها علاقتها الخاصة بكائناتها الروحية والديموشعرية أما مرايا الصمت هذه التي تجمعها تأتي بعدة انعكاسات منها ..
1. الصمت الصائت .. تقول :
نجمةُ الأفق , رعشة هذي الحقولْ
بِصمتٍ تقولْ ..السماءُ ..السماءْ
2. الصمت الفصيح .. تقول :
وبينهما .. كان صمْتٌ فصيح
يشقُ البرودَ بقلبِ المساء ..أغيبُ
طفل الخيال يغيب .. لنقبُعَ في موتنا اللانهائي ..
تُعرَّفُ الفصاحة بأنها الإبانة أي براعة الإظهار والوضوح ولكنّ الشاعرة هنا لعِبت على قلب الصورة بمفهومها الشعري فجعلت الصمت يتأنقُ بفصاحته وهي صورة تتفرد هي الأخرى باشتغالها المرآوي لشاعرة المرايا المائية ..
3. الصمت المؤنسن / أنسنة الصمت : تقول :
الخيام / الرمال / الظلام / الخيول
كلها أطرقت في ذهولْ .. وحده الصمت سدَّ الجهات محرمًا في ضمير الفرات .. والظمأ بانتظاراته ذابلُ .
هكذا جعلت الصمت محرمًا في الفرات وجعلته يسد الجهات فهو كائنٌ فاعلٌ للحدث ، يمارس ظلاله ورهبته ..
4. الصمت المرتب .. تقول :
ترتبه ..
ويرتب صمتك … حزنٌ سقيمٌ قطيعُ الوتَرْ
5. الصمت الهادر / الصمت النقي .. تقول :
” ويهدرُ مِنْ شرفة الموت صمتٌ
خفيٌّ نقيٌّ كوقع المطر ” ص 144
ثانيًا :
الديوان اتكأ على مجموعة مِنْ التقنيات الفنية وهي أدوات شرطية لتحقق أي درجة منْ جمالية العمل الفني والأدبي أيًّا كان جنسه ..كما أنه مُؤشر على تمكن الشاعره في استخدام اشتغاله التخصصي … وسنقف عند بعض تلك التقنيات وكيف وظفتها الشاعرة في تكوين نصها الشعري .
أولاً : التناص .. وقد يتجلى بعدة صور فهو يتعدد بتعدد المعالجات والتوظيف وحين نتحدث عن التناص فإننا لا نريد هنا أن نوسع رقعة الحديث على تاريخ المصطلح وإنما لمجرد الإشارة العابرة ، فالشاعر يرسم معجمه الفكري وممارسته الكتابية عبر تراكمات قرائية وما يمكن أن يتكيف معه وبه سيكون هو النتاج النهائي وهو يستدعي قبيلةً مِنْ التجارب السابقة والتي تصل إلى النظرية القائلة بالتداخل النصي .. على صعيد الدلالة التفكيكية أو الألسنية .. يقول الناقد محمد الحرز في كتابة ( شعرية الكتابة والجسد ) :
” إنَّ كلَّ تجربة شعرية هي في السياق الثقافي المحلي هي ترجمة وصدى لتجربة أخرى في السياق ذاته ، بل أزعم أنًّ كُلَّ شاعر هو مقطع شعري في قصيدة القصائد التي هي منجزنا النصي بالدرجة الأولى “ص89
وأجلى مظاهر هذه المقاربة التناص على تنوع أشكاله مِنَ الاقتباس أو التضمين أو الأستداعاء أو حتى القناع …
– التناص القرآني ..
في تجربة نورة النمر .. يتجلى الحضور القرآني واضحًا في الكثير من الأبيات والاشتغال جاعلة منْ هذه التقنية رافعة للأسلوب ومحفزةً للمتلقي واستدراج ذائقته وثقافته ونقف على بعض الأمثلة :
– فالآن أكشفُ عن ساق المجاز إذا
أطلقت عبر خيالي ألف إزميلي ساق المجاز
– تراودُ قلب القصيدة عن نبضه تراودُ قلب القصيدة
فتغلقُ أبوابها عنك..بابًا فبابا
– اركض برجلك إنها الأحساءُ – اركض برجلك
الناسُ هم ينبوعها والماءُ
– ألقِ القميص على غشاوة أحرفي – ألقِ القميص
ترتدّ راقصةً بألفِ شعاعِ
– تحرر من الشك/ والشوك واخلع هنا نعل تلك الأنا – اخلع نعل الأنا
وارتبك للنداء ..فأنت بوادي النقاء
– أمكثتُ أحلامي بليل توجّمي – بوادي النقاء
ورسول هذا الجرح آنس ناره
– باسم الله فلك الحب .. مجراها ومُرساها – مجراها ومرساها
وهناك العديد مِنْ التناصات القرآنية ما تشكل ظاهرة بارزة وفارقة .
ثانيًا : حضور الأب الشعري ..
واستدعاء الرمز الشعري وحتى الشخوص الفنية بشكل عام .. هذا ينمّ عن ثفافة النص وثراء الذاكرة ميثولجيا أو معاصرًا ..
– دعي المدامع والأحزان تنشدُ لي – أنشودة المطر للسياب
مقدار ما أنشد السّياب للمطر
– إلى محمود درويش ..
( النص معارضة شعرية لرائعة الشاعر محمود درويش ) – محمود درويش
هذا عذابك / بل عذابي / نحن معجونان من طين الغضب
– حتى غدو جثة تأكل الطير منْ رأسها ..
استدعاء لبيت الشاعر محمد عبد الباري .. – تأكل الطير محمد
قصصت عليك مِنْ رؤياي سجنًا عبد الباري
فكن طيرًا لتأكل خبز رأسي
– وفي كلِّ أفق ضجيجُ الحياة ..
ينادي ينا .. غردوا .. غردوا .. فيه استدعاء – غردوا .. غردوا
لبيت الشاعر جاسم الصحيح : جاسم الصحيح
هو الشعر صوت الخلاص القديمُ
يصيحُ بنا .. قاوموا ..قاوموا
– يعزف ألحانًا / يعصر أشجانًا – فيروز
يتغنى فيها أنغامًا فيروزية
– قفا نبكِ مِنْ ذكرى حبيبٍ نسيناه – معلقة امرئ القيس
في الحرب .. ثم أضعنا المطايا بداخلنا قفا نبكِ ..
واجترحنا التفاصيل
كيف نلمُّ خيوط الشتات
وغيرها الكثير من تناصات الرمز وحضور الأب الشعري لا يعني الوقوف عنده والتماهي فيه بل لتجعله الشاعرةُ محطة تزويد ذهني وخيالي يحفزها للانطلاق حيث تفتح لها نوافذ الحس الجمالي والبحث عن الكلام خارج الكلام ..
وأخيرًا وكما قلت التجربة مكتنزة بالعديد مِنْ التقنيات الشعرية والجمالية لا يسعني التوقف عند كلِّ ملمحٍ منها وأجد أن أقف عند الحديث حول التنظير حول هذه التجربة الفنية وقبل أن أسدل ستار هذه الورقة نتغنى بأجمل ما ورد فيها مِنْ لفتات وومضات رائقة ..
– كلما أطلقت قصيدة .. نبتت في قلبي حقبة بهاء .
الكتابة بوابةٌ لأزمنةِ ثانية
– ومن سيربك وحي الروح إنْ رسمتْ نبض الشغاف حديثًا دون تأويل
أصغي إلى الكون في أنقى سرائره كلُّ الجهات كناياتٌ تغني لي
فللقصيد دمٌ ..شريانه قلقي يسري كنهرٍ مِنْ الأوجاعِ مأهولِ
– أتعرفُ طعم نبيذ الكلامِ إذا سال مِنْ غيمتي ثملٍ ، أويقينٍ ليمطرنا لذةً واغترابا ..
– نص أبواب الشعر السبعة …ص16
– تعبنا من الصمت رغم الكلام متى ياترى يختمُ المشهدُ
وفي كل أفقٍ ضجيج الحياةِ ينادي بنا .. غردوا غردوا
– المزاريبُ شراينيك .. والريح سؤال عالقٌ في اللاجوابْ
– اركض برجلك إنها ( الأحساء ) الناس هم ينبوعها والماءُ
ولأنها ( هَجَرُ ) القلوب وعرشُها فالكل بين ظلالها أمراءُ
– كالعناقِ الذي به تتسامى جنَّةٌ عرضها التفاف يدينِ
– وكلهفة الفلاح بين حقولها
لبَّى فكبر في يديه المنجلُ
فالأبجديةُ في مداها طفلةٌ
مهما نُفصِّلُ فهي لا تتفصَّلُ