وجدت ضالّتي
كنتُ أبحثُ – وأنا في حيّ السيدة زينب (ع) – عن أستاذ متميّز ونوعي في تدريسه، أي لا يكتفي بقراءة سطور الدرس وتفكيك عباراته، ثم مطالبتي بحفظ متنه وشرحه كما لقّنني إيّاه قالباً جامداً لا يحقّ لي الإشكال أو حتى الاستفسار عمّا قد لا أهضمه بحسب مستوى التحصيل العلمي الذي ما زلت في خطواته الأولى.
فالحقّ – ولا ينبغي لأحدٍ أن يثير حفيظته لأيّ سبب كان – أنّ أغلب حلقات الدرس الحوزوية لم تكن بالمستوى الذي يُشبع نهم طالب عالم مقبل على العلم بكلّه حتى يحصّل بعضه، مع توفّر الكتب الدراسية التي أحسبها فريدة راقية في مضمونها، بغضّ النظر عن أسلوب وطريقة عرضها.
ثلاثة مجتمعة!
فحتّى ينعكس نور العلم على قلب الطالب، لا بُدّ من تكامل عناصر العملية التعليمية:
الأول: أستاذ ماهر يجذب انتباه تلميذه خلال وقت الدرس كلّه، بالتفنّن في طريقة العرض، يُحفّز التلميذ على الإشكال، والبحث بتوسّع في غير الكتاب المقرّر، وتلخيص الدروس بعباراته، ففي ذلك فوائد جمّة لا تخفى على من كان قريباً من هذا المضمار.
وثاني تلك العناصر، منهاج مميّز في محتواه، وإن كان مؤلّفه غير موفّق في العرض، فلا يتردّد الأستاذ في إعادة ترتيب وتنسيق ذلك المحتوى، أي ليس بالضرورة الالتزام بشرح الدروس مرتبة كما أراد المؤلف، ففي النّهاية هو كتاب من صنع بشري، لا قرآناً مقدّساً يمثّل خطًّا أحمر لا يجوز لنا الاقتراب منه.
ثم العنصر الثالث، وأحسبه الأهمّ، وهو الطالب الجادّ في التحصيل، ومن صفاته: الحرص على حضور الدرس في وقته، دون تأخّر أو غياب لأعذار مختلقة، فإذا حضر ببدنه، كان ذهنه أشدّ حضوراً، فيبقى شعلة من الحماس وقت الدرس، يُصغي بسمعه ويتفكّر بما يلقيه أستاذه، ويسأل عمّا لم يفهمه في حينه، فـ *”حُسْنُ السؤال نصف العلم”،* وإذا ما انقضى وقت الدرس، سارع إلى تدوينه وحفظه في كرّاس خاصّ به.
أستاذ مميّز يتوفّر على تلك الصفات، لم أحظَ به خلال فترة زمنية ليست قصيرة كنت أبحث فيها عنه، فكلّما أحضر درساً عند أحدهم، أعود حسير الطرف، لم يحرّك واحداً منهم وتر قلبي.
على الخبير وقعت!
وبإزاء هذه الحال غير السارّة، لم يكن لي إلّا المفزع في الملّمات، والوسيلة لقضاء الحاجات، فوجدتني في رحاب حرم عقيلة الطالبيين السيدة زينب عليها السلام، متوسّلًا بحضرتها وداعياً الله بحقّها لكي أجد أستاذاً أنتفع ببراعة شرحه، وأمتلئ بفيض علمه، كما رسمت شخصيته في ذهني.
ثم غفوتُ في الحرم، ونادرًا ما كان يأخذني النعاس هناك، ورأيتُ – فيما يرى النائم – كأنّ ضريح السيّدة قد غطّته ذرّات الغبار، فمددتُ يدي ومسحت (السبّاﭺ)، فإذا به كالسّبائك الذهبية اللامعة، ثم استيقظت.
بالطبع، لم أفهم تأويل هذه الرؤيا بالدقة، ولكنّني خمّنت وجود بادرة طيّبة في مسيرتي العلمية قد تكون نواة أحصل بها على مرادي.
خرجت من الحرم المقدّس متّجهاً إلى حيث يكون الشيخ مصطفى المرهون، وسألته إذا كان يعرف أستاذًا مميّزًا، فقال إنه يعرفُ أستاذاً اسمه الشيخ أبو طه التميمي، قد سمع عنه أنه أستاذ قدير، وقد جاء للتوّ من طهران إلى حيّ السيدة (ع)، يريدها وطناً لا يغادره.
فسألت الشيخ المرهون عن كيفية التواصل مع الشيخ التميمي، فبادر الشيخ مصطفى في الحال بالاتصال على أحدهم ورتّب موعدًا في اليوم التالي لمقابلة الشيخ أبي طه.
الحلقات أنفع وأفضل!
وبشروق شمس اليوم التالي ذهبتُ إلى العنوان المحدّد وطرقتُ باب الشقة الموصوفة وخرج لي شخص مرتديًا ثياب الأفندية، وعرّفته بنفسي، وأنّني قادم إليه بواسطة فلان.
أدخلني شقته وجلستُ في صدرِ المجلس، وإذا به قد جلس أمامي وسط الغرفة وكأنني الأستاذ، وهو التلميذ!
فوقفتُ خجلًا وطلبتُ منه الجلوس في الصدر، ولكنّه رفض قائلًا إنّ هذه عادته في الجلوس إذا جاء ضيف، وسألني عن حاجتي، فطلبتُ دراسة كتاب (المعالم)، فقال:
لا بأس، ولكن دراسة حلقات السيّد الصّدر، أنفع وأفضل، فاتّفقنا على ذلك وبدأنا بالدرس.
وكان درس الحلقة الأولى يضاهي المعالم، ثم درسنا الحلقة الثانية، وكذلك طويناها، وقبل أن ندرس الحلقة الثالثة اقترح أن نقرأ أصول المظفّر قراءة عابرة، وهذا الكتاب نافع جداً، وهو الموازي للحلقة الثانية من حلقات السيّد الصدر، فقرأناه معه كلّه.
سؤال المجرّب ينفع
ومن الأمور اللطيفة أنّي طلبتُ منه في يومٍ من الأيام أن ندرس (الشمسية)، وهو كتاب في المنطق، فقال لي: *لا فائدة فيه سوى تحفيز العقل،* وبعد إصراري على دراسته، قَبِل بذلك وبدأنا من أول صفحة حتى آخر صفحة من الكتاب، وحين انتهى الدرس وأغلق الكتاب، قال لنا:
الآن لدينا سؤال مهم بعدما درسنا الشمسية، هل من الضروري دراسة هذا الكتاب؟
فأجمعنا بعدم ضرورة دراسة الكتاب، بل أكثره فكّ رموز فقط، فقال لنا: عرفتم معنى قولي قبل أن ندرس الشمسية ليس ضرورياً أن تدرس، فهذه موعظة كبيرة لكم.
همّةٌ لا تعرف الكَلَال!
فكان الشيخ أبو طه (عبد النبي التميمي) من محافظة البصرة أستاذًا وصديقًا وفيًا، ومربيًا رائعًا، وكنتُ أمدحه بين زملائي الطلبة، فالتحق بعضهم بالدرس الذي كان درسًا فريدًا بين الحوزات العلمية.
وقد أخبرنا الشيخ أبو طه أيام كان مستقرًّا في طهران أنه قد أسّس حوزة في طهران نفسها، وكان يدرّس فيها خمسة دروس في المجلس نفسه يوميًا، تقوم جماعة وتجلس أخرى، فلا يقوم من مكانه إلّا بنهاية الدرس الخامس.
وفي فترة الصيف انتقل سكن الشيخ التميمي من شقته في السيّدة زينب إلى شقة أخرى في منطقة (ببيلا)، تبعد عن مقام السيّدة أربعة كيلومترات تقريباً؛ لغلاء أسعار الإيجار في تلك الفترة الصيفية، بسبب كثرة الزوار، وانقطع الدرس الذي ربما كان بسبب ضيق شقة الشيخ الجديدة وعدم ملاءمتها للدرس، كما أظنّ أنه لا يتيسّر له استئجار سيارة تُقلّه من سكنة الجديد إلى حيث سكنى طلابه.
الخير والشرّ توأم!
وأستاذٌ مربٍّ كهذا حقّه عظيم علينا، ولعلّ أدنى تلك الحقوق، زيارته والسؤال عن حاله في سكنه الجديد، وهذا ما كان منّا في يوم من الأيام، فبعد أن تشرّفنا بالسلام عليه أخبرنا أنه رأى موقفًا وصفه بالعجيب، إذ سمع صبيان الحيّ هناك ينشدون أهازيج، فأنصت لها، واكتشف أنّ معناها في مدح معاوية وذمّ علي بن أبي طالب عليه السلام، وهذا دليل على بقاء بعض الذين ما زالوا يحملون في نفوسهم البغض والكراهية لأهل البيت عليهم السلام في بعض قرى دمشق.
ثمّ عزم أخيراً أستاذنا التميمي على السّفر إلى هولندا، ودّعناه متأسّفين على فقده، وعندما استقرّ هناك أرسل لنا رسالة يخبرنا فيها أنه قد أسّس شقة خاصة للدرس الحوزوي في هولندا وبدأ بالتدريس فيها.