عندما يسيء إليك شخص، فقد تظل في داخلك حالة من الاستياء والقهر خصوصًا إذا كانت الإساءة صادرة من شخص عزيز على قلبك أو مقرب وغير متوقع منه مثل تلك التصرفات أو المواقف، أو الحالة الأخرى أن تتبنى مبدأ المسامحة فالمسامح كريم وعفى الله عما سلف وتمضي قدمًا وكأن شيئًا لم يكن.
كثيرًا ما نسمع ونستخدم عبارة سامحنا نسيبك في مواقف كثيرة في مجتمعنا القطيفي المعروف عنه المحبة والترابط والتسامح بين أفراده الله لا يغير علينا. استخدام كلمة نسيبك لا يعني بالضرورة وجود صلة قرابة فعلية ولكن لوصف مدى تقارب الناس ببعضهم البعض. والملفت للنظر أن طلب المسامحة في مجتمعنا ليست دائمًا مقترنة بفعل أو تصرف خاطئ كما جرت العادة في استخدامها. فمثلًا سامحنا نسيبك مقصرين في السؤال أو سامحنا نسيبك ما حصل لينا الشرف نشارككم فرحتكم. هي عبارة جميلة في غاية الأدب والذوق وفيها من الاحترام والتقدير الكثير.
للأسف بعض الأحيان استخدامها في غير مكانها المناسب يخدش من جمال هذه العبارة ويجعلها عبارة غير مريحة لأصحاب الحقوق خصوصًا إذا اتخذت كذريعة للاستخفاف بعقولهم والإساءة لهم “تعمد قطع الإشارة، ويوم اصطدم بالسيارة قال سامحينا يا جارة، طيب وأنا من يعوضني عن الخسارة”. من الضروري جدًا أن تكون مسامحة الآخرين لذنبٍ اقترفوه أو تقصير تسبب في أذى وإن كان ضرارًا نفسيًا أن تكون عن قناعة ونابعة من القلب وليست بالإجبار أو الإكراه. كما يقال سامحه عن طيب خاطر، وليس سامحه لأن أباه كان رجلًا طيبًا والله هو ما يستاهل.
تراه يركن أسطول سياراته عند مدخل بيت الناس لدرجة يصعب فيها على ساكني البيت الدخول والخروج وهو يعلم تمامًا بأنه يقترف فعلًا غير محبب ويشكل إزعاجًا للآخرين ومع ذلك يصر (يطنش) على موقفه. وتارة أخرى يركن سيارته متعمدًا أمام باب الكراج ويمنع أصحاب البيت من القيام بمشاويرهم الضرورية أو في حالة تعرضهم لظرف طارئ يستوجب عليهم مغادرة المنزل بالسيارة على وجه السرعة إما لإسعاف مريض أو ما شابه ذلك وقد يودي هذا التعطيل -لا قدر الله- إلى زهق أرواح أو تفاقم حالة مريض وفي نهاية الأمر يرد على سهام الانتقاد لفعلته بكل برود ما كان قصدي وسامحنا نسيبك!
ومرة يقف بشكل خاطئ في وسط الطريق ليشتري من البقالة باكيت دخان يعدل به مزاجه على حسب كلامه (مع أن التحذيرات على علب السجائر تشير إلى غير ذلك وأن التدخين من الأسباب الرئيسية للإصابة -الله يكفينا وإياكم الشر- بمرض السرطان) وهو يعلم أن مثل هذا الوقوف سيعيق حركة المرور خصوصًا في الطرق الضيّقة وسوف تقف السيارات خلفه طوابير وكذلك يعلم تمامًا أن مثل هذا الوقوف سوف يعكر مزاج الآخرين وعندما تعتلي الأصوات ويطلق سائقو السيارات العنان للأبواق (هورنات)، يرد بكل برودة أعصاب بحرك الحين وسامحنا نسيبك!
مشغول باستخدام الجوال وكتابة الرسائل (مسجات) أثناء القيادة وعدم المبالاة لسلامة الآخرين وسلامة ممتلكاتهم لأن متابعيه ومعجبيه لا يتحملون الانتظار لبضع دقائق حتى ينتهي من القيادة وعندما يحدث ما لا يحمد عقباه يقول بكل أريحية كنت مشغولًا على الجوال وما انتبهت بس هذه المرة سامحنا نسيبك!
ومرات يحمل طفله الرضيع أثناء القيادة وكأن غريزة الأبوة والحنان والمحبة لا تأتى إلا عندما تلامس يداه الدركسيون وتطال رجلاه دعسة البنزين، ما يعلم بأنه بهذا التصرف الخاطئ يعرض حياة طفله وحياة الآخرين للخطر. ومرات أخرى يسمح لابنه الصغير بقيادة السيارة دون حمل رخصة قيادة أو حتى دون بلوغ السن القانوني المسموح به وعندما يتسبب في وقوع حادث لا سمح الله وينتج عنه أضرار في ممتلكات الآخرين وربما تفوق ذلك، يرد: زي ما تشوف بعده ولد صغير وسامحنا نسيبك!
في موقف ما يسيء الأدب ويتمادى في استخدام الألفاظ والعبارات الدنيئة والتطاول على الآخرين وتصل في بعض الأحيان إلى التهديد بالضرب وعندما تتفاقم الأمور لتصل إلى مرحلة يستوجب فيها ردعه عن طريق الاستعانة بالجهات الرسمية والمختصة يقول بكل برود كنت معصبًا شوية وسامحنا نسيبك!
يصل به الأمر في بعض الأحيان إلى الطعن في شرف الناس وينسب إليهم من العيوب ما ليس فيهم ويشكك في نزاهتهم ويشوه سمعتهم في المجالس (الديوانيات) وساحات التواصل الاجتماعي مستخدمًا عبارات بذيئة ودنيئة وإذا تمت مواجهته ومصارحته بما اقترف لسانه وخطت يداه يرد بكل ثقة وكأن خطأه سيغتفر بسهولة مثل كل مرة ما توقعت الأمور توصل لهذه الدرجة من الزعل وسامحنا نسيبك، عندها سيكون الرد عليه صارمًا وين نصرفها؟ فقد “بَلَغَ السَّيْلُ الزُّبَى” حيث وصلت الأمور إلى حد لا يمكن تحمله والسكوت عليه. لكل شخص منا خطوط حمراء لا يمكن لأي من كان تجاوزها أو المساس بها حتى يبقى التغاضي عن الخطأ ممكنًا وطلب السماح أمرًا مقبولًا ويمكن النظر فيه.
يتأثر الجميع منا تقريبًا (البعض يقول عادي عندي) بتصرفات أو كلمات الآخرين وقد تترك أثرًا سيئًا وجرحًا عالقًا في النفس لعشرات السنين فلا الزمن ولا الأحداث كفيلة بمحوه من الذاكرة. كما أنه من شدة هول بعض الأغلاط أنها لا تغتفر والبعض منها يصعب على الإنسان تقبلها كما يصعب إصلاحها مهما حاول الفرد منا على ذلك.
وفي المقابل الإصرار والتعمد على افتعال المشاكل والإساءة للآخرين يجعل من الشخص عالة (أبو مشاكل) على المجتمع ويجعل المقربين قبل الأغراب يبتعدون وينفرون من حوله ويتبرؤون من معرفته قبل نسبه.
في أغلب الأحيان طلب المسامحة مقترن بوقوع الأخطاء وجل من لا يخطئ فالوقوع في الخطأ طبيعة النفس البشرية وكلنا معرضون للمرور بمثل هذه التجارب والمواقف. الناس يتعلمون من أخطائهم الشخصية ويتعلمون الكثير من الأشياء التي لم يكونوا يعلموها حيث إن الجهل بالشيء هو سبب رئيسي للوقوع في الخطأ. بالإضافة إلى ذلك الناس يستفيدون من تجارب الآخرين لتجنب الوقوع في مثل تلك الأخطاء أو تكرار نفس السيناريوهات. لكن المخزي المعيب هو الإصرار على الخطأ في حق الآخرين حتى بعد معرفة الصواب بذريعة وحجة جل من لا يخطئ فكما ورد في الحديث الشريف “خير الخطائين التوابون”.
المسامحة (التنازل) في بعض المواقف من أصحاب الحق وحدها لا تكفي ولكن ربما تخفف العقوبة المترتبة على تلك الأعمال والتصرفات. فهناك حق عام وعدالة تأخذ مجراها وفقًا للنصوص الموضوعة والمتعارف عليها والمعمول بها. والبعض منها يؤجل البت في أمرها إلى أجل مسمى أو كما يقال الحساب إلى يوم الحساب.
لا شك أن الإحساس بالذنب تجاه الآخرين وطلب الصفح والمسامحة منهم تصرف جميل جدًا وفيه مراعاة لمشاعر الآخرين وكذلك مسامحة المخطئين عند الاستطاعة هو عمل نبيل وله من الأجر الكبير. آيات كثيرة في القرآن الكريم بالإضافة للأحاديث والروايات الواردة عن رسول الله وأهل بيته عليهم أفضل الصلاة والسلام في فضل العفو والتسامح. كما جاء في سلوكهم عليهم السلام الكثير مما يحثّ على التسامح وبيان آثار العفو في الدنيا والآخرة.
على الفرد منا أن يحسن التصرف قدر الإمكان في الظروف الاعتيادية (أما القهرية فلا حول ولا قوة) بدلًا من الإِصْرارِ على الخَطَأِ والتَّشَبُّث بالقيام بأفعال وتصرفات غير مرغوب فيها والتي من شأنها إنزال الضرر على الآخرين أو التعدي على حقوقهم الشخصية ومن ثم طلب المسامحة، فالعفو قرار شخصي بغض النظر عن حجم الضرر، والناس ليسوا مجبرين على تحمل الأذية والاستمرار في التغاضي عن الإساءة وقبول الاعتذارات (جزاهم الله خير إذا سامحوك) حتى لو كانت وسيلتك سامحنا نسيبك!