كثيرة هي التساؤلات التي يحملها عقلي وتظل تدور في رأسي وقد لا تستقر، وتظل تدور مكونة محطات توقف، وقد لا أستطيع أن أدلي فيها برأيي أو أسجل بعض ملاحظاتي ما لم نحدد الأرقام ونشرع في الحسابات الدقيقة والقراءة بشيء من التمعن والنقد في الوقت نفسه.
إن من أكثر ما يثير البلبلة في أذهان الناس حول تأثير أي غذاء دون تقديم دليل علمي ودراسات وافية ودقيقة تؤكد صحة تلك الاستنتاجات، والمستهلك قد يقع في حيرة من جرّاء تلك الدراسات.
اطلعت على الدراسة التي نشرتها جريدة اليوم في الأحد – 23 مايو 2022 عن “الحليب .. والتدهور المعرفي”، في هذه الدراسة التي شارك فيها (4668) شخصًا، تتراوح أعمارهم بين 55 و 75 عامًا، أظهرت أن الأشخاص الذين يشربون الحليب كامل الدسم بانتظام بدا عليهم تدهور معرفي . ويمكن الاطلاع عليها من (هنا).
كم من مرة طالعتنا، ولا تزال تطالعنا دراسات في الصحف اليومية حتى أصبحت مرتعًا للجدل واختلاف وجهات النظر، ما أوردته مجلة Molecular Nutrition & Food Research على صفحاتها حول دراسة أشارت إلى نتائج غاية في الأهمية تتعلق بالتدهور المعرفي الذي قد يتعرض له كبار السن جرّاء تناول حليبٍ كامل الدسم؛ يغلب على تلك الدراسة التعميم الذي لا يصح، إذ يعتريها كثير من الافتراضات والغموض والجدل العلمي وتضارب دراسات مما أفقدها المصداقية، ونحن لا نحبذ مثل هذه الدراسات الذي لا يثبت قطعًا أنها دقيقة.
لا يمكن اعتبار الحليب غذاء مثاليًا إلا إذا توفرت أصناف غذائية أخرى معه تكمل حاجة الإنسان وكفايته من الغذاء، ولا يمكن أن يعتمد الإنسان على تناول الحليب فقط، نقول هذا كون الحليب يحوي مقدارًا ضئيلًا من الحديد، العنصر المهم في تركيب الدم، ونقصه يسبب فقر الدم، وتظهر أعراضه على هيئة تعب .. لا يستطيع المصاب التفكير بوضوح وبسرعة، وينسى كثيرًا ما يجب أن يفعله، وهو ما يعرف بـ ” التدهور المعرفي “.
ولو تساءلنا: ما التدهور المعرفي؟ نجيب بأنه مصطلحٌ شاملٌ العديد من مشكلات صحة الدماغ المرتبطة بالشيخوخة، مع تقدمنا في السن تنخفض مهاراتنا المعرفية بشكل طبيعي، إذا كان – حقًا – جزءًا من عملية الشيخوخة الطبيعية، فستتمكن من العيش بشكل مستقل والعمل بشكل جيد للغاية. لكن الإعاقات المعرفية والخرف أكثر ضعفًا بكثير، ويمكن أن تؤدي إلى تدهور سريع في الصحة المعرفية بعد سن 65 ولها تأثير خطير على الأداء اليومي والذاكرة والتنقل والكلام والكتابة والقدرة على عيش الحياة دون مساعدة.
كان لا بد أن آتي بالتعريف السابق لأبرر إقدامي على إخراج هذا المقال والذي رأيت أنه يستحق الجهد، خاصة عندما يكون الموضوع يتعلق بثقة المستهلك و يمكن أن يضعه في حيرة من أمره.
تشير الدراسات إلى أن كمية الطاقة والمغذيات تقل مع التقدم بالعمر، وهذا يضع هذه الفئة في خطورة الإصابة بسوء التغذية، وكما هو معروف ينتج عن سوء التغذية الضعف، وفقر الدم، ولما كانت كمية الحديد المأخوذة تقل مع العمر، يزداد فقر الدم، ويصاحبه الخلل الوظيفي المعرفي، يبدأ بالتدهور التدريجي للقابلية الفكرية ويتطور ببطء، ويعد النسيان من أهم علاماته، وقد يصل إلى الخرف أو الزهايمر.
هناك أشخاص لا يحبون شرب الحليب وعادة ما يتعرضون للتدهور المعرفي، لكنهم قد يكونون معذروين في هذه الإمكانية، حيث إن هناك صلة بين البيئة الإجتماعية والموروثات وزيادة العلوم المعرفية . الدلائل والمؤشرات العلمية تؤكد أهمية الغذاء الصحي وممارسة الأنشطة البدنية والثقافية خلال مراحل العمر المتقدمة للوقاية من العديد من أمراض نقص الحركة وسوء التغذية والتدهور العقلي.
تحتاج الفئة العمرية المتقدمة إلى المزيد من التثقيف و الإطلاع كي يتمكنوا من وقف التدهور المعرفي والذي من أسبابه إهمال القراءة، في حين الذين يملكون الفكر والمعرفة هم العلماء والكتاب والمثقفين.. مكتباتنا أصبحت مهجورة، ومبيعات الكتب انخفضت، بعد ظهور الكتاب الإلكتروني وقنوات التواصل المختلفة، فهل من وسيلة للثقافة والإطلاع أجمل من الكتاب الورقي؟
يقول آرنود شيبل – عالم أعصاب – مدير معهد أبحاث المخ: إن دماغ الإنسان يحتوي على 100 مليار خلية عصبية، ولا أحد ينكر أن التقدم في السن يجعل بعض هذه الخلايا تموت.
لكن هذا التراجع يتفاوت بين شخص وآخر؛ فالتراجع الكبير هو عند الذين يتعرضون لمرض الزهايمر، لكنه ليس خطيرًا عند الأصحاء الذين يمارسون الأنشطة البدنية والذهنية.
مثل هذه الأنشطة تسهم في تشكيل تشعبات جديدة في المناطق الدماغية المختصة باستيعاب وتحليل المعلومات، إن هذه التشعبات تزدهر في سن الخمسين والستين وما بعد الستين، نلاحظ أن المبدعين من كبار السن هم أكثر عددًا من الصغار.
التغيرات التي تحدث لأجسامنا مع تقدمنا في العمر تشكّل معالم ضعف ومتاعب؛ حيث يأخذ الجسم تلك الوضعية كدليل على تناقص القدرات الحركية والذهنية مما قد يقودنا إلى سرعة تعريضنا للأمراض المصاحبة للشيخوخة.
الدلائل والمؤشرات العلمية تؤكد أهمية الغذاء الصحي وممارسة الأنشطة البدنية والثقافية خلال مراحل العمر المتقدمة للوقاية من العديد من أمراض نقص الحركة وسوء التغذية والتدهور العقلي.
الحليب كامل الدسم قد يجعل المخ يشيخ بشكل أسرع، هذا ما جاءت به الدراسة !! هل هذه المعلومة صحيحة ؟! عندما أتأمل تلك الافتراضية، فليس من السهل أن أصرف اللغط الدائر حول الحليب برمته، طبعًا نحن ضد إطلاق مثل هذه النتائج حسب معطيات الدراسة، لأن هناك اعتبارات لم يؤخذ بها، لكن دعونا ننظر للأمر من زوياه العديدة.
أيهما أكثر فائدة للصحة تناول حليب كامل الدسم أم قليل الدسم أم منزوع الدسم؟
إن منتجات الحليب التي نقوم بشرائها عادة على أنها قليلة أو منزوعة الدسم توحي بأنها أكثر نفعًا للصحة العامة، والحقيقة أن الكثير من الناس لا يدركون أن الأغذية قليلة الدسم غنية بالسكر والنشويات، وهي السبب الحقيقي لأمراض القلب وزيادة الوزن وارتفاع نسبة السكر في الدم.
تتفق غالبية الكتب التي تناولت “الطب النبوي” على أن منتجات الألبان هي من الأغذية المتكاملة من الناحية البيولوجية بالرغم من أنه ينقصه قليل من العناصر الغذائية.
وتشير إلى أنه يُعد أفضل من أي غذاء منفرد وحيد، ولا توجد مادة غذائية أخرى يمكن أن تقارن مع الحليب لاحتوائه على المواد الغذائية الأساسية الضرورية التي لا يستغني عنها جسم الإنسان في جميع مراحل نموه وتطوره ” البروتينات والكربوهيدرات والسكريات والدهون والمعادن والفيتامينات ” . قال الله تعالى: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ} “النحل: 66”.
يعد الحليب كامل الدسم الغني بالأحماض الدهنية والبروتين والكالسيوم والبوتاسيوم وفيتامين D من بين الأغذية المفيدة لذكاء الأطفال ونمو العظام والأسنان ومساعدة الجهاز المناعي للعمل بكفاءة، فضلاً عن مسؤوليته عن تفعيل نشاط البروتينات المكملة في عملية التمثيل الغذائي للأحماض الدهنية للفئات العمرية المتقدمة.
الحليب الذي نعرفه أيام زمان مورست عليه معالجات كيميائية غيّرت في قيمته الغذائية، وقد يكون أكثر خطرًا على الصحة، ونعني بها أخطار السمية وتلوث الحليب، والأمر يحتاج إلى توضيح، وقد تطرقتُ في مقالة سابقة نشرتها في هذا الموقع بعنوان ” الحليب ومنتجاته .. تحت رحمة مصانع الألبان ” ويمكن الرجوع إلى المقالة من أرشيف ” القطيف اليوم ” من هذا يتضح مدى أهمية الحليب الطازج المستخرج من الأبقار التي تتغذى من الأرض الخالصة، هذا الحليب من الضروري تواجده مع الطعام اليومي، كما أوصت بذلك المنظمات والهيئات الغذائية.
وفي النتيجة يمكننا القول : إن تطور العلوم والبحث العلمي لا يقف عند حد، فأولئك العلماء يسعون بما فتح الله عليهم، وقد تصيب نتائجهم أو تخيب { وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ } فإن صح ما جاء في الدراسة فسوف يكون ضررًا نتيجة حرمان الجسم من عناصر غذائية ضرورية، الحاجة إلى دراسات أكثر عمقًا تأخذ في الاعتبار الحالات الفردية والجنس والحساسية وغير ذلك.
في الدراسة لم يحدد صنف الحليب كامل الدسم ” طازج أو منتج من مسحوق حليب ” وهناك عدة عوامل يجب أن تأخذها الدراسة في الحسبان مثل : فإذا كنت قد تجاوزت الخمسين من العمر فمن الطبيعي أن تتعرض إلى تغيرات نفسية أو اجتماعية أو أسرية أو جسمية أو شخصية أو صحية .. تؤثر على فكرك، وحذف الحليب من قائمة طعامك يترتب على ذلك مشاكل صحية، إلا إذا كان هناك سبب طبي واضح وأسباب خاصة للامتناع عن ذلك، فعدم معرفة القائم على الدراسة بالحالة الصحية للمشارك تعطي نتائج غير دقيقة.
وأخيرًا، الحليب يغذي وينشط ويقوي، واستعماله آخذ بالاتساع يومًا بعد يوم في جميع أنحاء العالم، فلماذا نمنع أنفسنا عنه وفقا لدراسة مشكوك في نتائجها، فليس هناك علاقة بين التدهور المعرفي لكبار السن وتناول الحليب كامل الدسم.
منصور الصلبوخ – أخصائي تغذية وملوثات.