قد يكون التمثيل موهبة لا يعتمد فقط على تقليد الحركات وحفظ النصوص، التمثيل البعيد عن التكلف والذي يصل لك دون أن تشعر لوهلة أن أداءه غير حقيقي هو التمثيل الذي تشعر بالإندماج معه بكل حواسك وتتفاعل معه بالضحك أو البكاء وربما تبقى اليوم كله تشعر بالسعادة بعده أو بالحزن جراء مشاهدته والتفاعل معه ودخوله للقلب من واقعيته.
ويميل البعض لمشاهدة الأفلام الأجنبية في دور السينما أكثر من الأفلام العربية وحتى المسلسلات لأنهم يعتنون بتمثيل أدوارهم وكل تفصيلاتها دون أن يتركوا مجالًا أن هذا تمثيل؛ لهذا قد يوصمون بالجنون، حين يسعون لتغيير أشكالهم بشكل كبير، فتجد البعض يفقد الكثير من الوزن مثلًا ليتلاءم مع دوره الذي يكون هزيل الجسم، أو يغير في هيئة شعره وشاربه وذقنه ويدرس كل انفعالات حالته إذا كانت مرضية ويسأل المختصين حولها ليعيشها فعلًا وربما تؤثر على حياته من فرط دخوله وتقمصه لها، وقد تجد البعض ينتظر عدة سنوات لتكبر شخصية العمل ولا يقنعه وجود شبيه ليكون أوقع بالعيش معها.
لهذا بات إنتاج الأفلام صناعة وهناك من يثق بأثر صناعتها ومفعولها لهذا يضع بعض التحذيرات عليها قبل مشاهدتها مثل من كان له نزعة للانتحار فعليه عدم المشاهدة رغم أني أشعر أن هذا التحذير مرغب أكثر منه محذر لأن كل ممنوع مرغوب، وإلا لما وجدنا من هم دون الثامنة عشرة يتابعون ما هو ممنوع عليهم بوصف +18 أو للكبار فقط.
نعم قد لا يخلو فيلم أو مسلسل أجنبي من مشاهد تجعله غير نظيف حيث يدسون السم بالعسل بدهاء، بالمقابل لو أردنا النظر للإنتاج العربي فللأسف حتى لو رأيته يسعى لتقليد الأجنبي بالأفكار فمعظمه تشم رائحة التمثيل فيه والتي باتت تغرق بقصص الحب التي لا قصة فيها واقعًا حين ترى الحب يلطم بزوايا العمل حال قول أحدهم لمحبوبته “أحبش” دون سابق إنذار! لتلعن هذه الكلمة من كثرة ابتذالها لحد الغثيان خاصة بالأعمال الخليجية.
وبعيدًا عن ساحة التمثيل في الشرق والغرب، هناك ساحة للتمثيل هي ما جاءت بي اليوم واقعًا لأدعو لدخول ساحتها والتي أضمن التصفيق بعدها لكل من يحضر ممثليها.
الأطفال هم موضع التمثيل والتقليد، نحن نحتاج بحياتنا لنمثلهم، بالطبع أنا لا أدعو لترك عقولنا وتصغيرها لتكون بعقل طفل، ولكن فلندرس لماذا نختارهم لصلب التمثيل؟
هناك أمر جميل بالأطفال يتوجب تمثيلنا له وهو وضع كلام الناس موضع الهم الكبير لنيل إعجابهم أو استحسانهم فأداء الأطفال لا يلتفت مطلقًا لنظرة الناس وكلامهم حال عمل شيء، لهذا يكون أداؤهم العفوي يدخل القلب فورًا حتى لو كان يحمل شيئًا من الخطأ لكن الأداء العفوي الحالم يغفر لهم، فحين يُطلب منهم قراءة شيء أو تمثيله أمام الناس فهم أول من يبادر وربما سينتابه الحزن لو لم يتم اختياره حتى لو لم يكن حافظًا لنصه أو حركاته فيكفيه شرف المشاركة.
إضافة لحاجتنا لتمثيلهم بالصدق، فالأطفال أبدًا لا يعرفون الكذب في حياتهم وبفطرتهم وإنما يكتسبون الكذب منا نحن الكبار، والغريب؛ نحن من نعلمهم قبح الكذب وحرمته، ولكننا نكذب أمامهم وربما نجعلهم ستارنا الذي نتستر فيه على كذبنا لنعطيهم تذكرة الجواز بالعمل فيه، لهذا تراهم حتى لو كذبوا فهم يراوغون فيه خوف العقاب لتضارب قيمة الصدق الواجب الالتزام بها وجواز الكذب الذي يعمل به الكبار أمامهم، أداؤهم بعيد عن التصنع لهذا لو حاولوا الكذب فيه فافتضاحهم بسيط ويظهر على صفحة وجوههم.
ولديهم صفة التسامح السريع والنسيان فلا يحملون في قلبهم الحقد والضغينة على أحد فينسون الإساءة ويبدؤون من جديد دون التوقف على إساءة صدرت من أحد ليكملوا حياتهم بشكل طبيعي، وحري بنا أن نمثلهم ونقلدهم في هذا الأداء السامي الذي حتمًا يجعلنا نعيش حياة سالمة وهانئة.
وهناك صفة رائعة أننا قد نتضايق منهم حين عملها لكنها لها معنى رائع جدًا قد يغيب عنا، وهو الإلحاح وعدم اليأس من الحصول على المبتغى.
الطفل قد يبكي ويبكي من قلبه لدرجة أن تسمع صوت تعسر أنفاسه وغبنته لأنك لم تعطه ما يريد ، وإذا لم تنفع دموعه لاستمالة القلب للاستجابة لمطلبه، فهنا يبدأ المرحلة الأخرى بالإضراب عن التحرك وعدم الابتعاد عن مكان دميته التي يريدها مثلًا دون الحصول عليها فهنا يمارس ضغطه العاطفي بمساندة معرفته أن هم كلام الناس مهم لدى والديه لهذا سينال مطلوبه كي لا يتعرضا لوابل من كلام الانتقاد من تركه يبكي أو يتعفر للحصول على دمية خاصة إذا بادرا هما لشرائها له!
وإذا ساءت لديه الأحوال وعدم الاستجابة لأدائه الدرامي، وأُجبر على التحرك دون الحصول على غايته فسيحمل حزنه وغضبه للبيت إلى الوقت الذي يحظى بوعد حقيقي بالتنفيذ ليرجع بابتسامة نصر تشهد انتصار ذكاء الطفولة على قوانين الكبار.
من منا لا يطلب مبتغى وحاجة مهمة لكننا ربما نتنازل عنها بأول العقبات، ونستسلم عن طلبها بإلحاح الأطفال؟!
هم لا يبرحون مكانهم دون التخطيط لنيل مرادهم مهما كانت العقبات أمامهم متعسرة، ونحن لا نبرح إلا بدمعات زهيدة لا تجعل القلب يصرخ بطلب الغوث لهذا فهي قد لا تستوجب نزول الغيث على ذاك القلب وروحه.
نعم هناك أمور من الحكمة تأخيرها ومن صالح المرء أن يأخذها متأخرًا ليتنعم فيها خير نعيم.
لكن قل لي كيف تتنعم بالحصول على شيء إذا لم تشهد استطعام مرارة الدمع كل ليلة في طلبه؟! فلا يستطعم العسل جيدًا إلا من ذاق مرارة العلقم.
فحين يقبع طلبك معك بليلك ونهارك وصوت غبنتك التي دُس لها اليأس من تشخيصات أهل الأرض حفظته الأملاك من كثرة قرعك لأبواب السماء التي تسكنها فتأمل فتح الأبواب قريبًا.
وفي ميلاد الإمام الرؤوف أنا أجزم بأن صوت قرع بابه مسموع ويفتح عاجلًا لكل من مثّل دور الأطفال وذهب والحاجة بيقينه مقضية لديه ولن يخرج إلا بها لأن الرؤوف والعطوف لا يترك قاصده بدمعه هاملة طويلًا.
البارحة وفي حال استماعي لمولده بإحدى الحسينيات ، كان من ضمن توزيعات المولد توزيع الورد على الحضور، وكان هذا التوزيع مخصصًا للكبار، فحين بادرت الكوادر لتوزيعه على الحضور كانت أمامي فتاة بمجرد أن رأتهم يوزعون الورود قامت بروح طفولتها رغم أنها لم تكن صغيرة ولكنها قامت خوفًا من ألا يأتي دورها في التوزيع وطلبت وردة لكن الكادرة لم تستجب لطلبها وربما طلبت منها العودة لمكانها لإعطائها وحين عادت مكانها جاءت الكادرة وأعطت أمها وخطّرت الفتاة وأعطت التي بعدها!
أزعجني الموقف فكيف بقلب الفتاة، لكنها أعجبتني حيث لم تستسلم عن مطلبها ورأت كادرة أخرى وذهبت لها ونالت وردتين بدل الواحدة، ورجعت وهي تشق ابتسامة الفوز بعطايا الرؤوف الذي لا يهون عليه خروجها دون وردة ميلاده، لا بل فضلًا عن ذلك حين جاءت كادرة أخرى لتوزع بجانبي جاءت الكادرة الأولى لتستعير منها بعض الورد لتوزعه بجهة أخرى لكنها تذكرت الفتاة حين نظرت لها وأعطتها وردة حمراء جميلة بتفتحها فكانت حصيلتها ثلاث وردات، ولا أصف لكم كيف كانت ابتسامتها التي انغرست بذهني حتى استيقظت اليوم عليها فصرت أتذكرها وأبتسم بشدة من جمالها لأقرر الكتابة بفضلها.
هي برهنت لي على أنه إن جاء الدور علينا ولم نُعط مثلما يُعطى الناس فقد يكون مكتوبًا لنا أن نأخذ أضعاف ما ينالون إذا سعينا ولم نستسلم.
لكن أتعلمون ربما يكون الوصول لحافة الاستسلام -دون اليأس بالطبع- طريقًا أيضًا للإجابة عند الرؤوف الذي تنال عنايته ولطفه كل مكروب ومهموم قد تسلسل الاستسلام لأرواحهم، هنا ذكرت زيارتي الوحيدة التي زرت بها الإمام الرضا (ع) حيث كانت بشهر رمضان حيث يصعب التنقل فيه ولكن زيارة أخته المعصومة (ع) بقم كانت بخاطري ولم يكن مرتبًا لها، لكن من أوائل الأيام كانت هي مطلبي لديه لأرجع بزيارة كاملة له ولأخته، وشارفت أيام الشهر الفضيل على الانقضاء ولم نجد حجزًا يوصلنا لها ويسهل أمر زيارتها بكل المحاولات.
وفي أحد الأيام لم أرجع للسكن من بعد صلاة الصبح كالعادة لأخد قسط من الراحة، وظللت بالحرم إلى صلاة الظهر وقد أخبرته أنني كنت أطلب كل يوم زيارة أخته المعصومة لكن مع قرب انقضاء الأيام فاليوم هو اليوم الأخير للطلب وإذا لم يتم قضاء هذه الحاجة وكتابة اسمي من زوارها فلن أطلبه بعدها.
ذهبت للسكن ونمت من التعب لتوقظني خالتي عصرًا لتقول لي استعدي وأعدي حقيبتك فاليوم سنذهب للمعصومة فقد تسهل الأمر ووجدنا حجزًا للذهاب لها، لا أعلم كيف قمت ذاك اليوم من الفرحة وأنا لم أنم جيدًا، ولم أشك للحظة أن عنايته كانت ترافقنا برحلتنا لها وحتى بجواره حيث كنا ذاهبين بمفردنا نساء دون رجل ودون الالتحاق بإحدى الحملات.
أنا لا أستغرب ذرف الدموع حتى بميلاد الرضا (ع) فمن جرب عطاءه وحنانه فعينه ستجود عليه بمائها حين تتذكر لطفه بها، لهذا كل مناسبة للرضا تجد روحانية عجيبة فيها لأن النفس تشتاق قرب أنيسها.
بالختام أدعوكم لتمثيل دور الأطفال في قراءة هوسة حتى لو لم تجربوا قراءتها من قبل وتناسوا وجود أي أحد فقط استحضروا وجود صاحب المناسبة واقرؤوها لأجله أمام الناس أو حتى بمفردكم وأنا أجزم أنها بصوت أرواحكم وقلوبكم هي واصلة ومسموعة لدى الرضا الرؤوف وبإذن الله يسمع قائلها بشائر رد سماعها وهي:
عندك حاجة متعسرة ومقطوع الأمل عنك
الدنيا سودة بعيونك ويعقوب النبي چنك
اقصد للرضا وگله احلفك بالجواد ابنك
ها خوتي ها ها
اهمومي الليلة تجليها
اهمومي الليلة تجليها
اهمومي الليلة تجليها.
ومتباركين وأيامكم بالرضا سعيدة.