كان النفس الأول بعد عملية زراعة الكلية لي ثقيلً، فتحتُ عيناي على رؤية غير واضحة بسبب التخدير لكنني لمحت وجه أمي مبتسمًا فاطمأن قلبي وأغمضت عيني بنوم عميق.
وضعت في غرفة بالمستشفى ممتلئة بالأجهزة، جدرانها باردة فارغة من الحياة، بعيدة عن باقي الغرف، لن أخرج من بابها إلا بعد مضي ثلاثة أشهر، لحين تقبل جسمي الكلية الجديدة، وبسبب انعدام مناعتي لن يدخل غرفتي إلا الأطباء، لكنهم سمحوا لوالدتي بالبقاء معي بعد إلحاحها الحاد، بشرط ألا تخرج هي الأخرى من الغرفة طوال هذه المدة، تشاركني هذا السجن الموحش وطيف الموت يلوح فوقي يهجم علي في أي لحظة، فنجاح العملية غير مضمون.
منذ اليوم الأول علّقت والدتي سبورة صغيرة فوق سريري، ومنبهًا على طاولتي، وصندوق صدقة قرب وسادتي، ودفترًا مزينًا بالألوان مع قلم بجانبي أنا مثلكم تمامًا لم أفهم ما تنوي فعله لكن بالتأكيد هي تسير وفق خطة وهدف.
كتبت على السبورة (اليوم الأول في طريق الانتصار) وفي اليوم التالي كتبت (اليوم الثاني ونتيجة المعركة لصالحنا) كانت تكتب كل يوم كم أمضينا بعبارات التشجيع والتحفيز.
أما المنبه فكان القائد العسكري الذي رتبت فيه والدتي جدول يومنا، كان يرن معلنًا وقت المسؤولية القادمة الملقاة على عاتقي حسب خطة أمي، لم أكن مريضًا مدللًا كما تتتخيلون.
أن أضع صدقة في كل يوم عند استيقاظي هذا ما جاء بفكري بصندوق الصدقات، الواقع أن والدتي خصصت وقتًا بعد صلاة الصبح طلبت مني ترديد دعاء من قلبي لكافة المؤمنين مع كتابته بداخل الدفتر الذي جلبته لي أكتب فيه يوميًا مذكراتي ثم أضع الصدقة ليستجيب الله دعواتي.
أحضرت لي كتب المدرسة وكانت تخصص وقتًا لتعليمي الدروس التي ستفوتني، علمتني أن أكون متعطشًا للعلم دائمًا، لأن العلم ما سيبني لي مستقبلي.
وعلى أرفف الطاولة هناك قصص اختارت محتواها بذكاء في فن التحفيز والإرادة والطموح أقرؤها بالوقت المخصص للمطالعة.
وهناك أوراق الرسم، نعم أنا لست من هواة الرسم لكنها تطلب مني رسم لوحة يوميًا وتناقشني في محتواها ثم تلصقها على جدران الغرفة، أدركت حينها كم يخفف الرسم من حدة التفكير يأخذك لعالم من الخيال الواسع.
في كل صباح كانت تمارس معي بعض التمارين البسيطة لتقيني من جمود عضلات جسمي، بعدها نقف بالقرب من النافذة نستشعر دفء الشمس، نشاهد الخارج، تناقشني عن أحلامي وطموحي وما أسعى له وقبل أن أعود للسرير هناك مهمة ترتيبه الملقاة على عاتقي.
وفي إحدى زيارات الأطباء، كان الطبيب يخبرنا قصة شفاء أحد المرضى ويطلب مني أن أكون مثله ردت والدتي وقالت (ابني لن يقلد قصة نجاح أحد، لأنه سيبني قصة نجاحه الخاصة به) كان رد والدتي حافزًا لي أكثر من قصة الطبيب.
لا نفتح التلفاز إلا قليلًا لمشاهدة مسلسل كوميدي أو فيلم، أحادث والدي وإخوتي مرة صباحًا وأخرى مساء. وكوني محبًا للعبة الشطرنج سعدت عندما جلبتها والدتي وبدأت بتعليمها كيفية اللعب بها حتى إنها غلبتني ذات مرة.
في ازدحام يومي هذا، لم يكن هناك متسع من الوقت للتفكير بالألم أو الملل، مرت الأيام أسرع مما توقعت وقبل ساعة من الخروج من المستشفى في يومنا الأخير كتبت والدتي على السبورة (لقد ربحت المعركة يا بطلي) واحتضنتي بدفء لا يوجد إلا بأحضان الأمهات.
ذهبت أمي لإكمال إجراءات الخروج وفتحت مذكرتي لأكتب آخر اليوميات، كتبت يومها (ما تعلمته خلال 90 يومًا أن الدواء الحقيقي لشفائي لم يكن ما يوضع بالوريد إنما سر شفائي هو أمي، كنت قويًا لأني بالقرب ممن يحبني، علمتني والدتي كم تحبني بأفعالها، رسمت لي منهجًا تربويًا وأخلاقيًا غير فكري تمامًا فتعلمت من عبارات السبورة (الإيجابية) ومن المنبه (قيمة الوقت) ومن صندوق الصدقات (الإيمان بالله) ومن دفتر المذكرات (تفريغ المشاعر) ومن الرسم (الخيال) كم أنا محظوظ كونها والدتي.
علمتني أمي أن أثق بإيماني وقدراتي، وألا أكون بمقاعد اللاعب الاحتياطي بهذه الحياة بل مهاجم نحو أهدافي. علمتني الكفاح والإصرار على الوصول والرضا. أخبرتني يوما أن الله يحمل لنا الخير بكل بلاء نجتازه، وفعلًا هذه الثلاثة أشهر هي التي غيرت كل حياتي للأفضل. لم تشتك من لبس الكمام والقفازات يوميًا ولا من تعقيم الأدوات والغرفة، ولم يفارق الأمل كلماتها!
الغرفه التي كنت أراها سجنًا حولتها أمي إلى مدرسة، الجدران الباردة أصبحت معرضًا فنيًا لرسوماتي، دخلت الغرفه خائفًا وقلقًا وأخرجتني والدتي بطلًا طموحًا.
كنت أبلغ 13 ربيعا حينها، واليوم أنا طبيب وجراح أطفال أزور المرضى وأجدهم يقضون أوقاتهم على الأجهزة الإلكترونية وأمهاتهم على التليفونات وأول نصيحة أقدمها لهن أن يقدمن الحب لأبنائهن ويتفننّ به لأني تعلمت من والدتي أن (الحب شفاء).
هذه القصة للدكتور عيسى؛ جراح واستشاري في إحدى دول الخليج ربته أمه بحب وذكاء، أشارككم قصته لنتعلم معًا كيف نبدأ في تغيير نظريات تربيتنا لأبنائنا.
التربية طريق متجدد كل يوم مع تحديات هذه الحياة، لنتوقف عن رسم مستقبل أبنائنا ولنجعلهم يرسمونه بأنفسهم ورغباتهم، لنستبدل التدليل بتعليمهم تحمل المسؤوليات، وبدلًا من أن نبعد عنهم كل ما قد يسبب لهم التعب والفشل لنعلمهم أن الفشل يعلمنا الصواب وأن تجاوز التعب يولد الإنجاز.
مهما كان عمرك ومستوى تعليمك وقدراتك تستطيع أن تربي ابنًا ناجحًا موهوبًا واثقًا من نفسه ومؤمنًا بذاته والأهم من ذلك أن يكون سعيدًا.
وفي ازدحام وسائل التواصل الاجتماعي كونوا بالقرب منهم.
أحبوا أبناءكم، أبدعوا في تربيتهم، ادخلوا بعالم أفكارهم، عيشوا معهم الطفولة، توقفوا عن أداء أعمالهم، ادعموهم في أحلامهم، ثقوا بقدراتهم، اعتزوا بوجودهم، احترموا رغباتهم وميولهم، تعلموا منهم.
لو تدركون كم يحتاج لكم أبناؤكم، كم يرونكم قدوة لقدمتم الحب مثل أم عيسى وأكثر ولوجدنا عشرات مثل هذا الدكتور لا يقول هذا أنا بل (هذه أمي) (وذاك أبي) فخرًا واعتزازًا بهم.
وأختم كلامي بعبارات كتبها الدكتور عيسى على صورة والدته المتوفاة المعلقة بصالة منزله
“لقد دفنوك يا غاليتي في داخل قلبي، أراك بكل سلوك وخلق أتبعه، بكل نجاح والذي لولا حسن تربيتك لما حققته، في كل حلم رسمته وآمنتي بقدرتي بتحقيقه، في كل مشكلة تمر بي أنظر لرسوماتي لأتذكر أن الصبر كفيل بحلها، وأحاور الرحمن بدعاء أكتبه كما علمتني، لقد طبعتي بداخلي بصمة نادرة لا يمكن العيش دونها، حبك بقلبي لا يموت أبدًا أحبك يا أجمل نعم دنياي”.