يطارد الوجع قلبها بين الحين والآخر، فتهرع معصومة إلى النافذة بعينين شاردتين حزينتين تتأمل شجرتها شجرة البمبرة، كانت الريح تضرب أوراقها، والأوراق تنتحب انتحابًا هادئًا رقيقًا يشبه صوت موسيقى جنائزية هادئة؛ فالشجرة التي لم يعد لعمرها الطويل الذي تجاوز الخمسين عامًا إلا أيامًا وتقلع من تربتها، تربطها بمعصومة علاقة روحية ممتدة من طفولتها، لذا ما أن يلوح في ذهنها مشهد الجذور والعروق الممتدة إلى أعماق روحها وهي تنتزع انتزاعًا، تستشعر الفراق وأوجاعه ليس في قلبها فقط بل في كل جوارحها.
معصومة تتحدث بصوت قادم من دهاليز آلامها: يا روحي البمبرة، كيف ستقلع هكذا بعد كل هذا العمر؟، يجيبها زوجها مقطبًا حاجبيه الأشيبين، بضجر: هذا ما سيحصل، فمشروع الطريق سيمر من قريتنا مقتلعا البيوت التي تقع بجانبنا، لسنا الوحيدين.
تتجسد هذه الشجرة في روح معصومة، فكل غصن من أغصانها كأنه عضو منها، يطوف بها الخيال، تتذكرها عندما كانت غصنًا رطيبًا وهي تمر من جانبها مع فتيات القرية، كم قطفن من ثمارها البلورية التي تبرق كالشمس، كم أكلنّ من هذه الثمار وتلاعبن بها أحيانًا، تتذكر وهي تعصر بكفها ثمرة البمبرة مخرجة غشائها المخاطي، وصديقاتها يتقاذفن ما بأيديهن من ثمار وقد ملأن الحي صخبًا بضحكاتهن، وما أن نضجت أنوثتها وبدأت في الاكتمال كانت هذه الشجرة مصيرها الأبدي، ومن حسن حظها أن تزوجها شاب من ذلك البيت الذي تنبت بجانبه الشجرة، وفي الأيام الأولى لزواجها اتخذت من أغصانها مكانًا لتجفيف ثيابها على ضوء الشمس رابطة بأحد أغصانها حبلًا ممتدًا حتى النافذة المطلة على صالة المنزل إلى أن اشترى لها زوجها منشفة كهربائية، وكم تابعت أغصان الشجرة وهي تحتضن أزواج العصافير وهم يزقزقون ويبنون أعشاشهم دون أن يمسهم أحد، وكم استظلت بظلالها، وكم قطفت من ثمرها الذي يبرق كالذهب كل صيف لأطفالها وجاراتها ولا تنس جارتها وصديقتها المقربة “أم حسن”. كان خيرها لعموم أهل القرية.
وتكبر معصومة وتكبر البمبرة معها وتلد كل أولادها، حتى شبوا وتزوجوا وهجروها إلى بيوت أخرى، لكن البمبرة بقيت إلى جوارها تطل عليها حافظة ذكريات طفولتها وشبابها ومسئوليات الأطفال، كبرت معصومة وكبرت معها البمبرة مكملة عمرها، كم دار في خلدها أنه لو قلعت البمبرة ربما سينهار بناء بيتها كله، كما لو أن كل جذورها المتشعبة والمتشابكة تمسك ببيتها القديم وتحول دون أن يهوي في قاع الأرض والنسيان.
والشجرة تزهر كل صيف بعطرها وينمو ثمرها الذهبي، أكثر من خمسين عامًا من الرفقة والذكريات، تحنق معصومة كلما تذكرت مشروع الشارع الجديد الذي تراه لا يكترث لمشاعر الناس الذين يوصلون حبلًا متينًا بمكانهم وبماضيهم هنا مع كل حجر وورقة شجر، ثمة شيء يريحها كلما لاح في ذهنها أن بيت جارتها “أم حسن” لن يطاله القص كما سيطال معظم بيوت القرية، إذ سيتفرق كثير من الأهالي وكثير من جاراتها عن هذا المكان، فحيّها القديم سيشقه الشارع الجديد، وسيتحول ذلك الحي الصغير والهادئ والذي تتلاقى فيه مع جاراتها إلى شارع رئيسي يضج بأبواق السيارات جيئة وذهابًا.
في الفجر بينما تتلو أذكار الصباح على سجادتها، خطر في ذهنها أن تقيم نذرًا لله عز وجل، وتقرأه في مسجد الشيخ عزيز الولي الصالح، ففي هذا المسجد تكشف الحجب وتستجاب الدعوة، فقبل خمسة أعوام نذرت لله نذرًا في هذا المسجد من أجل أن يسعد حظ ابنتها وتتزوج، إذ كاد أن يفوتها قطار الزواج، فاستجيبت دعوتها وتزوجت ابنتها في ذات العام.
وجهت معصومة الدعوة لنساء القرية لحضور المجلس الذي ستقيمه في المسجد وحضرن في عصر يوم الجمعة، ولم تفصح معصومة عن سبب النذر لأحد من النساء إلا لجارتها “أم حسن”.
النساء يتواردن حتى ضاق بهنّ المكان، كان المسجد يمتلئ بالروحانية وثرياه تضيء الأركان والوجوه بشكل يبث الروحانية ويهيئ الضراعة لله بيقين، رفعت يديها وتضرعت وقلبها خاشع بأن يحفظ الله قريتها وأن تنجو شجرة البمبرة من الهلاك.
بعض النساء لم يستطعن كتمان فضولهن، فتسأل إحداهن معصومة عن سبب النذر بعد ما وجدت ما هي عليه من تضرع وبكاء، ولكن معصومة تحجم عن الإجابة حتى ظنت النسوة أن الأمر جلل وأنها ربما تمر بأحداث مريرة في حياتها الزوجية، تدور الأحاديث بين النساء وتبادلن الهمس بين بعضهن البعض، فواحدة تقول لعل زوجها قرر الزواج عليها، وأخرى تمازحها وتقول لعلها تريد خلفة بعد أن وصلت إلى سن اليأس، وأخرى تقول لعل زوجها هجرها بلا سبب، وما انتهى المجلس قبل أذان المغرب بقليل حتى همت النساء بالخروج قبل أن يأتي الرجال للمسجد للصلاة، وعادت معصومة وقلبها معلق هناك متضرع يواصل تلاوة الأدعية، تقسم على الله بالنبي وبرأس الحسين عليه السلام أن يتحقق أملها ويستجاب دعاؤها.
أثناء الظهيرة فيما العائلة مجتمعة على شرب قهوة وشاي ما بعد الغذاء، تتقصى معصومة أخبار القرية التي يأتي بها زوجها من مجالسه مع أصدقائه ومعارفه، تستمع للأخبار، لا شيء يدعوها للتفاؤل، فقد سرت شائعات بأن البلدية على وشك دعوة الأهالي لإكمال الإجراءات لاستلام مستحقاتهم، ولكن لا أحد يقطع بحقيقة الأمر، تبتلع معصومة قهوتها بصعوبة بعد سماع هذه الأخبار التي زادتها قلقًا، فالأخبار لا تسر ولن يكترث أحد لتأوهات بعض الأهالي ولحالهم الذي سيضيق بهم، فكيف لهم أن يكترثوا إلى شجرة البمبرة، هذه الشجرة التي تعتبر شاهدا على كثير من ذكرياتهم وأحداث قريتهم، والتي لم تبخل عليهم يوما صغارا وشبابا وشيوخا بفاكهتها المحببة وبظلالها وبمنظرها.
تمضي الأيام والأخبار تنبأ بتغير في مسار الشارع، فبعض البيوت التي كان يُظن أنها خارج المشروع قد أتى عليها وتلك التي ظُن أنها داخل المشروع نجت من القص. حين عاد زوجها من الديوانية، شعرت معصومة بأنه يحمل لها أخبارا،لكنها لم تستطع قراءة الأخبار من تقاطيع وجهه أهي سعيدة أم مخيبة للآمال، حتى بادرها بصوت متقطع: لقد حدثت تغيرات في مشروع الطريق.
وأكمل: لقد ابتعد الشارع عن بيتنا بضع أمتار وستسلم شجرة البمبرة من مشروع القص.
أشرق وجهها بالفرح وودت لو تتقافز كطفلة من فرط السعادة، وتهاوت ساجدة لله وهي تمتم لقد استجيبت الدعوة ووفيّ النذر، الشيخ عزيز -بلا شك- ولي من أولياء الله الصالحين.
وأكمل زوجها وقد غص بالكلمات كما يغص بلقمة الطعام: لكن هناك شيء لا يسر، خفق قلب معصومة واضطربت، قالت: يا رجل لقد أخفتني! قال:الشارع الذي ذهب بعيدا عنا سيمر على بيت جارتك “أم حسن”.
شهقت معصومة شهقة وتضاربت المشاعر في قلبها ما بين فرح وحزن، عند ذلك انهمرت دموعها في خضم تلك الحيرة على جارتها التي سيفرق بينهما ذلك الطريق الذي بات أشبه بطريق الجحيم، صاحت: يا ربي الشجرة وجارتي.