إنَّ حرية التعبير عن الأفكار والمعتقدات والمشاعر بكل أشكال التعبير الإنسانية والمألوفة، من الأمور التي كفلها الدين؛ فالإنسان هو كائن حي متحرك ينفعل بما حوله ويضج كيانه بالحاجة إلى الإفصاح عن مكنوناته والتعبير عنها، ولم يعمل الإسلام -في تشريعه الرسولي- على كمّ الأفواه وإسكات الأنفاس وقتل روح الإبداع.
ولهذا رأينا في تاريخنا الإسلامي الكثير من المبدعين على مستوى الأدب والفن والموسيقى، كما رأينا الكثير من الجماعات التي كانت تعبر عن رأيها المضاد للفكر الإسلامي بكل صراحة، من دون أن يُمارس الإسلام عليها أي ضغط، بل على العكس، حيث وجدنا أن القران الكريم هو الذي نقل لنا كل إشكالات هؤلاء حول شخصية الرسول (ص) بأنه “ساحر” و “كذّاب” و “شاعر” و “كاهن”، وكذلك تشكيكهم بمسألة المعاد، وفي كثير من مفاهيم الدين وأحكامه.
فالحرية حق من الحقوق الطبيعية للإنسان، ولا قيمة لحياة الإنسان من دونها، وحين يفقد المرء حريته، يموت داخلياً، وإن كان في الظاهر يعيش ويأكل ويشرب، ويعمل ويسعى في الأرض.
لقد بلغ من تعظيم الدين لشأن (الحرية) أن جعل السبيل إلى إدراك وجود الخالق والإيمان به هو العقل الحر، الذي لا ينتظر الإيمان بوجوده بتأثير قوى خارجية، كالخوارق والمعجزات ونحوها قال تعالى: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ * لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ}، {… أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ}، {وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ}، {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ …}.
فالإنسان مستقل فيما يملكه ويقدر عليه؛ لا يفرض عليه أحدٌ سيطرته، بل يأتي هذه الأمور، راضياً غير مجبر، مختاراً غير مُكْرَه.
وهذه الحرية من أعظم ما آمن به الإسلام وكفله؛ وفي الصحيح يقول الإمام علي (ع): “إِنَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ أَحْرَارٌ، إِلَّا مَنْ أَقَرَّ عَلَى نَفْسِه بِالْعُبُودِيَّةِ”. وقال: “أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ آدَمَ لَمْ يَلِدْ عَبْداً ولَا أَمَةً وإِنَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ أَحْرَارٌ”.
وعندما نقرأ وثيقة حقوق الإنسان، تقول: “إنّ جميع البشر مولودون أحراراً، ومتساوون في الكرامة والحقوق. وقد وهبوا العقل والضمير، وعليهم أن يعملوا تجاه بعضهم بعضاً بروح الأخوة”.
وهذا النص يؤكد على ناحيتين مهمتين ترتبطان بالحرية حقاً وواجباً:
1. أنّ الحرية تُولد مع الإنسان، ويُولد معها التساوي في الكرامة.
2. ضرورة التعامل مع الناس بروح الأخوة كواجب لصيانة هذه الحرية وحفظها عن التعدي على الآخرين.
وتجد هذين المضمونين مؤكدَّين بلسان الإمام علي (ع) في أكثر من موضع من نهجه الخالد فيقول: “لَا تَكُنْ عَبْدَ غَيْرِكَ وَقَدْ جَعَلَكَ اللهُ حُرّاً”. فهو يقول: الحرية خُلقت فيك منذ خلقك الله، وهي هبة الله فلا تبددها بالخضوع والعبودية لغيرك. فأن تكون حرّاً هو أن تملك إرادتك في داخل كيانك حتى لو كنت في زنزانة، أمّا إذا كنت لا تملك إرادتك فأنت عبدٌ حتى لو كنت في رحاب الصحراء، فقضية الحرية ليست قضية جسد يمكن أن يتحرك كما يشاء أو لا، بل هي قضية إرادة تتصلّب وتقوى وتركز الموقف حتى لو كانت الدنيا تضغط عليها.
وأهم شعب الحريات حرية التعبير عن الرأي.. وكثيراً ما يصاحب الحديث عن الحرية، الحديث عن مصطلح الحق، فربما فضّل البعض استخدام مفردة الحق للدلالة على الحرية، وبالعكس، وبعضهم استخدم كليهما في الحديث وأراد منهما معنى واحداً، ولشدة تقارب المفردتين من حيث انطباق مفهومهما على مصاديق مشتركة، اعتبرت احداهما مرادفة للأخرى من حيث المعنى الخارجي، وان اختلفتا في رسم الحروف، وربما يصعب التفريق بين الكلمتين كلما جرى الحديث عن الحرية أو عن الحق، نظراً لوجود ارتباط وثيق بين الحرية والحق، بغض النظر عن نوع الحقوق ما دامت على ارتباط مباشر بحرية الإنسان.
ولكن نظام الإسلام لا يشجع على مقولة “الحرية لأجل الحرية”، بل يرى الحرية لا بد منها لحركة التطور والإبداع الإنسانيين، وكذلك لحركة التاريخ، الأمر الذي يفرض أن تتحرك حرية التعبير في هذا النسق الإنساني العام لتكون حرية مسؤولة هادفة وليست حرية عابثة أو لاهية.
ووفق هذا السياق الإنساني، فإنّ حرية التعبير هي قيمة أساسية في منظومة القيم الإنسانية، ولا تختصر كل القيم، فهناك كرامة الإنسان وحرمته، ومن الخطأ غير المبرّر أن نعمل على مصادرة كرامات الناس وحرماتهم تحت عنوان حرية التعبير. وإذا كان نظام الحريات في الإسلام يرتكز على الإيمان بالله سبحانه، فمن الطبيعي ألا يصل مستوى الحرية إلى الخروج على هذا النظام بالتجديف على الله وكتبه ورسله.
وكما يقول الفيلسوف برتراند راسل: “حين تكون الحرية ضارة يجب أن نلجأ إلى القانون”.
ولكننا للأسف تجاوزنا الحق في قتل حق الآخر في حريته، ووضعنا العراقيل المميتة بحجة أعرافنا من أجل قتل أي إبداع معرفي أو فني!!..
لقد خلقنا الله، وخلق معنا ظمأ معرفياً نبحث عنه من خلال السؤال والشك، نبحث عنه من خلال الحب الذي يحركنا في نفس الاتجاهات، نرسم معها مختلف الألوان والأعراق والأجناس، تطرب لها أسماعنا في تداخل غريب من دون خجل أو تواري.
أيها المبدع! .. حرك قلبك في أي اتجاه، ستجد بوصلتك تتجه إلى قلب كلِّ ما تحب.. وهذا ليس سحراً، بل هو واقع يغض عنه البشر فيتيهون في عالم مادي محض؛ لأننا أصبحنا لا نتذوق حلاوة الكلمة والفرشاة، ولا تضيء لنا التجربة أي نزعة روحية وجمالية.
المعراج الحقيقي قد يختلف من فرد لآخر.. فهل هو الصلاة؟ أو الصوم؟ أو هو الشعائر بكل طقوسها المتفرعة؟ … من يعيش حالة الظمأ فإنه يدرك أنَّ المعراج الحقيقي هو حبك لإبداعك.
فما العلاقة والارتباط التي تربط الرسام باللوحة الصامتة؟! إنها تنبض بالحياة والحب من خلال ريشته وألوانه وإحساسه..
إنَّ معاناة الرسام، ومعاناة كلِّ فنان، هو كمعاناة العاشق لمحبوبته..
أليس كل كتاب يكتبه كاتبه هو عبارة عن ولادة جديدة، عامرة بالحب والحياة؟!
والشهيد البطل كما العاشق ينطلقان كلٌ إلى ساحة حبه ليرويها بحياته، وليرويها من عروقه ونبضات قلبه.. إنها صورة حية لكل عشق حي..
ما كُـنتُ أولَ مَـنْ يهوى وآخِرَهُمْ بـغـدادَ حتّى أكونَ المُـذنبَ الجاني
فإنْ يَكُنْ لِـيَكُنْ بغـدادُ أعـشـقُها شـهادةُ العِـشقِ أرجوها بـميزاني
وكما أنَّ الشهيد ولادة لمجد متميز في طريق العشق، كذلك هو العاشق فإنه ولادة متميزة في طريق الشهادة.. وسيبقى كل واحد منهما يسقي الآخر من عشق شهوده..
فالشهداء ضحايا العشق المؤلم.
والعاشقون ضحايا الشهادة المضمخة بلون الدم.
وكل جدول منهما يتساقط ثماره حوله، فيعرف لكل واحد منهما أوراقه وثمره ومذاقهما، وكما يقول باولو كويلو: “علينا أن نحب.. ولست أحدثكم عن الحب تجاه شخص آخر فحسب.. الحب يعني أن نكون منفتحين على المعجزات، على الانتصارات والهزائم، على كلِّ شيء يجري في كل يوم أُعطي لنا لنجوب وجه الأرض. علينا أن نحب لأنَّ الله يحبنا”.
وهل يتذكر أحدكم كلمات يوحنا، ذلك الحواري الذي ملأ حباً، حيث يقول: “أبنائي الصغار، دعونا نحب لا بكلماتنا أو ألستنا، بل بحق من خلال أفعالنا” فقد تكون الكلمات والعبارات في كلِّ لغة لها واقع ما، ولكن اللغة في حقيقتها ناقل غير كفؤ.
فكما أنَّ الله سبحانه نفخ فينا من روحه نفخة الحياة!، كذلك نفخ فينا نفخة الحب والجمال والابداع {فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ}.. فنفخة الروح ونفخة الحب وحدة لا يتفارقان.
فالحب هو الحياة.. وفي داخلنا نفخة من الألوهية غرسها الله منه فينا؛ ترشدنا وتنير دروبنا.. قد نعصيها -أحياناً- فنقع في الخطأ، وقد نستمع لما تقول فنصل إلى القمة والسعادة.
فكيف يصدر منَّا كرهٌ لإنسان وروح من الله سبحانه مزروعة فينا؟!!
إنَّ كلَّ تعبير عن الحب فإنه لا يعود لك قط.. بل هو أيضاً منضو ومشبع في روح الآخر. فهل وجدت كلمة (حب) إلا بوجود طرفين.
الرسام والفرشاة
والشاعر والقصيدة
الكاتب والقلم
الأذن والموسيقى
اللسان والدعاء
الإنسان والوطن …
ويوجد حديث يروى عن النبي (ص): “من عشق فعفَّ منكم، فمات، مات شهيداً” فالعشق الطاهر العفيف، هو عشق مقدس.