
أتذكر عندما أنهينا الصف الثالث الابتدائي بنجاح قبل أكثر من ثلاثة عقود من الزمان وصلتنا التحذيرات ممن سبقونا خاصة أن بعضهم كانوا يملكون خبرة كبيرة في هذا المجال واحتاجوا إلى سنوات أكثر من المعدل لبلوغ تلك المرحلة. تحذيراتهم كانت أن الصف الرابع صعب ومختلف عما سبقه من الصفوف خصوصًا مادة الرياضيات حيث يتعين عليك حفظ جدول الضرب وهو أمر في غاية الصعوبة وقد يؤدي عدم إتقان جدول الضرب إلى الضرب في أغلب الأحيان.
ويتواصل مسلسل التحذيرات عندما أنهينا الصف السادس الابتدائي بنجاح وكلنا حماس لبدء مرحلة جديدة. كانت التحذيرات بأن المتوسطة صعبة جدًا حيث يتعين علينا دراسة اللغة الإنجليزية وهذا أمر في منتهى الصعوبة وأكبر من طاقتنا العقلية والفكرية والاستيعابية. وعندما بلغنا الثانوية اشتدت لهجة التحذيرات بأننا سنعاني الويلات بسبب مادة الأحياء ومادة الفيزياء وما تحتويه مادة الكيمياء من تفاعلات. التحذيرات وقتها لم تكن مقتصرة فقط على المواد الدراسية بل شملت المعلمين وبالخصوص من ذاع سيطهم وسياطهم بين المدارس بأنهم يتفننون في معاقبة الطلاب المقصرين (الكسالى) وباستخدام أساليب مبتكرة لا تخطر على بال بشر. وماذا عن بقية النماذج الحسنة والمشرفة من المعلمين أصحاب الأخلاق الرفيعة والمتفانين والمخلصين في عملهم وواجباتهم ممن ربى الأجيال وساهم في إصلاح وتطور المجتمعات؟
لم تكن هذه نهاية التحذيرات، فالدراسة الجامعية تختلف كليًا عن سنوات الدلع والدلال التي عشتموها في الثانوية. في الجامعة ما في “يا أمي ارحميني”. الدراسة الجامعية تتطلب جهدًا أكبر وقد تضطر في بعض الأيام لعدم تناول الطعام والشراب بسبب ضيق الوقت وكثرة الواجبات وفي نهاية المطاف لن تجتاز المادة (تسقط) وتطرد من الجامعة ويضيع تعبك بلاش. لايزال العلماء متحيرين في فك الطلاسم لمعرفة ما تحتويه تلك العقول!
وبعد سنوات من التعب والتخرج من الجامعة وحلم الحصول على أول وظيفة والحماس لبدء مسيرة عملية تطبق فيها ما تعلمته من معرفة ومهارات تأتيك التحذيرات بأنك سوف تعاني الأمرّين من رؤساء ما في قلوبهم رحمة وزملاء عمل يتصيدون وينتهزون الفرص للنهش في لحمك وعظمك وكأنك سوف تباشر مهامك الوظيفية في شركة طرزان الواقعة في أحد الأدغال (الغابات). وهل توجد طريقة أفضل من مخالطة الآخرين لزيادة المخزون المعرفي وتنمية المهارات واكتساب الخبرات؟
وعندما تستقر بك الأوضاع وتفكر في إكمال نصف دينك تأتيك التحذيرات من كل حدب وصوب بأن الزواج قفص للحمام وليس قفصًا ذهبيًا كما يتغنى به الشعراء ويصفه المثقفون. انتبه فسوف يتعين عليك الجلوس في البيت طوال الوقت وأن تكون مستعدًا للمشاوير حتى بعد السماح للفتيات بالقيادة فأنت دورك مع كل احترام لهذه المهنة الشريفة سائق (دريول) روح وتعال أو “مطراش” ودي وجيب. وعندما تسأله هل هذا هو حال الوالد مع الوالدة؟ يتلعثم ويمتنع عن الإجابة بحجة أنها أمور عائلية ولا يجوز الخوض فيها مع الأغراب. خطوة مباركة، الامتثال لأمر الخالق عز وجل في إعمار الأرض، أجر وثواب لتطبيق سنة نبيه عليه وعلى أهل بيته أفضل الصلاة والسلام، ستر وصون النفس عن الوقوع في المحظور، استقرار وراحة بال، هذه فطرة البشر. هل غابت هذه العبارات والمصطلحات المحببة عند التطرق لموضوع الزواج عن ذهن الأخ النصاح؟
وعندما يرزقك رب العالمين بالخلفة وبدلًا من قول الله يبارك لكم ويطرح فيه البركة ويتربى في عزكم ويجعله شفيعًا لكم فالأولاد نعمة من رب العالمين، تبدأ الأسطوانة بالدوران من جديد، ويش لك بوجع (عوار) الراس ومشاوير المستشفيات، بعدك صغير وعمرك ما وصل الأربعين سنة المفروض تستمتع بشبابك. ما عرف الأخ النصوح بأنه يوم كان عمر أبيه وأبيك أربعين سنة بعض إخوانكم كانوا متزوجين وأنكم على وشك الانتهاء من دراسة المرحلة الثانوية.
العامل المشترك في جميع هذه التحذيرات من خبراء الإحباط والتي جعلت من كل مرحلة من مراحل الحياة للناس الآمنين أنها مرحلة عاصفة لا يمكن عبورها بسلام هو المبالغة في الاستخدام المفرط للمصطلحات السلبية والترهيب والتهويل والتي تثبط من عزيمة الآخرين وفي النهاية يقول لك “نصحتك لوجه الله تعالى”. عدم نجاحك في تجربة معينة أو مشروع تجاري أو حياتي لا يعني حتمية فشل الآخرين في نفس التجربة فالناس مختلفون في تفكيرهم وقدراتهم وأولوياتهم وتطلعاتهم وطرق معالجتهم للمشاكل. من الضروري أن يعي المسوقون لهذه الأفكار السلبية وأصحاب الأبواق التي تصدر مثل هذه التحذيرات الوهمية الحديث النبوي الشريف “فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ” فمثل هذه التحذيرات جعلت كثيرًا من الأشخاص المجتهدين والمثابرين أن يتراجعوا عن أهدافهم وتحقيق طموحاتهم والتي سعوا جاهدين من أجل تحقيقها.
وعندما يتقدم بك العمر وتصل سن التقاعد يخرج من يحذرك (أبو العريف) بأنها مرحلة صعبة وسوف تعاني من فراغ كبير وسوف تصدر منك تصرفات غريبة خاصة بالمتقاعدين مثل إطفاء الإنارة والجلوس في العتمة وإغلاق أجهزة التكييف بالرغم من حرارة الجو وتغيير الطلاء الخارجي للمنزل كل شهر واصطناع المشاكل مع أم العيال! شتان بين هذا الكلام وبين الخطاب الذي ألقاه أحد زملاء العمل في حفلة تقاعدك بأنك شخص مجتهد ومخلص في عمله وقدمت الكثير لتحقيق الأهداف المؤسساتية المنشودة ولم تتردد يومًا في تقديم النصيحة لمن هم أقل منك خبرة ومعرفة في نفس المجال، تقاعدك هو خسارة للمؤسسة ولكن حان الوقت ليستلم دفة القيادة شخص آخر في ريعان شبابه أحسنت تدريبه وصقل مهاراته لقد حان الوقت لتقضي مع عائلتك ومن تحب من أصدقاء وقتًا أطول وتجوب البلدان فأنت تستحق ذلك. لقد حان الوقت بأن يستفيد مجتمعك مما تملك من معارف ومهارات وأن تقوم بالأعمال التطوعية التي تجيدها وتحبها فأنت ثروة حقيقية لمجتمعك.
لا شك أن استشارة الأشخاص ذوي الخبرة والذين مرّوا بتجارب مماثلة وناجحة يساعد كثيرًا في تكوين فكرة عن المتطلبات سواء مهارية أو لوجستية بالإضافة لذلك تساعد في اتخاد القرارات الصائبة والمناسبة وتدارك وتجنب المصاعب والعقبات التي من شأنها أن تعيق الوصول للأهداف المنشودة وتؤدي إلى تعثر المشروع، لا قدر الله. لكن اختيار الشخص المناسب (الناصح) في غاية الأهمية.
وعندما تبلغ من العمر عتيًا يأتي البقية الباقية من تلك الأبواق السلبية متكئًا على عكازه ليخبرك بأنك سوف تعاني من أمراض مزمنة مثل الضغط والسكر وسوف تتناول بشكل يومي أدوية بعدد شعر رأسك هذا إذا بقي لديك شعر وقتها. وسوف تصاب بالزهايمر وإذا وصلت إلى مرحلة نسيان طريق البيت اعرف أن أيامك أصبحت معدودة. طيب وبعدين؟ إلى هنا وخلاص (بس) فمن المؤكد أن الأخ النصوح لا يملك خبرة عملية لمرحلة ما بعد الموت فما بعد تلك المرحلة كسابقتها من مراحل الحياة هو في علم الغيب وكل ما على الإنسان فعله أن يسعى ويجتهد ويحسن في عمله وإن الله لا يضيع أجر المحسنين.
تلك الأبواق لم تندثر وتنقرض كما هو حال الديناصورات بل مستمرة وتظهر في مواقف كثيرة إلى يومنا هذا وستجدهم أمامك في كل خطوة تخطوها من أجل تحقيق هدف من أهدافك، تكرر نفس السيناريوهات بالرغم من اختلاف المعطيات. فإذا ما أردت يومًا النجاح في شؤونك العلمية والعملية والأسرية والدنيوية وحتى الأخروية فعليك الابتعاد وعدم الاستماع والإنصات والاختلاط مع هذه الثلة من سفراء السلبية فهم لا يرون إلا الجانب المظلم فقط من الأحداث وهم حجر عثرة في طريق تطور الأفراد والمجتمعات بل أعداء السعادة والنجاح (كما تسميهم زوجتي). فإذا ما قابلت يومًا من الأيام شخصًا من على شاكلة سالب مرتفع أو سالب تربيع أو سالب مع مرتبة الشرف وتطوع لوجه الله كما يدعي لتقديم مادة سلبية دسمة فقل له ببرودة أعصاب قول غير هذا الكلام يا ولد الأجاويد!