سيرة طالب (14)

سورية حقبة ذهبية

بعد عودتي من العراق إلى أرض الوطن، عاد بدني، لكنّ روحي بقيت ترفرف هناك، حيث شغف طلب العلم في حال اليقظة والمنام، يأخذ بمجامع قلبي، وإذا كان الحال كهذه، فلا بُدّ من الاستعداد مرّة أخرى لشدّ الرحال إلى بلاد الغربة، بلاد تروّي ظمأ روحي وفكري بعلوم آل محمّد عليهم الصلاة والسّلام، ولسان حالي يُردّد مع الشافعي قوله:

سَهَري لِتَنقيحِ العُلومِ أَلَذُّ لي
مِن وَصلِ غانِيَةٍ وَطيبِ عِناقِ

وصَريرُ أَقلامِي على صَفَحاتِها
*أَحلَى مِنَ الدَّوكَاهِ وَالعُشّاقِ*

وَأَلَذُّ مِن نَقرِ الفَتَاةِ لِدَفِّهَا
نَقري لِأُلقي الرَملَ عَن أَوراقي

وَتَمايُلِي طَرَباً لِحَلِّ عَوَيصَةٍ
في الدَّرسِ أَشْهَى مِن مُدامَةِ سَاقِ

[الدوكاه: اللحن الثاني من أصول الأنغام الموسيقية، وهو أصل يتفرغ منه نحو أربعين نغمة.
وكذلك العشاق، لحن موسيقي].

وفي أوائل سنة 1412هـ، استأذنت أبي للسّفر إلى مدينة عشّ آل محمد، قم المقدّسة، فلم يأذن لي.

وحتى يتمّم الله لي بالتوفيق، لم يكن بوسعي سوى الخضوع لرأي والدي رحمه الله، لكنّ الشّوق الجارف لتحصيل العلم تمكّن من نفسي بصورة أقوى مما كانت عليه في بلاد الغربة، فاتّجه نظري إلى موطن أقرب أجد فيه بُغيتي، فكانت سورية. استأذنت والدي مرّة أخرى للسّفر إلى سورية لأدرس في مدارس قرية السيدة زينب (ع)، حيث تقع في أحد أحياء دمشق، فأذن لي.

دبّ الحماس في نفسي نتيجة موافقته، وبسرعة مقرونة بمشاعر البهجة والفرح التي غمرتني، رحت أحزم أمتعتي استعداداً لمغادرة الوطن، ولكن دون علم منّي بالموضع الذي أحطّ فيه رحالي من الجمهورية العربية السورية، فضلاً عن الحوزة العلمية أو المدرّس الذي أحضر عنده.

حقبة جديدة
تصرّمت أيام وليالي ثلاث سنوات وأنا أدرس في حوزات السيدة زينب (ع) المختلفة، وتعرّفت إلى شخصيات متباينة في المقام والتحصيل العلمي. كانت بالفعل حقبة لا توصف ولا يمكن أن تُنسى؛ وأكاد أجزم لو أنني كتبت جميع يوميّاتي هناك، لملأت صفحات ربما تؤلّف مجلّدين.

انضممت مع بعض طلبة العلم الخيّرين في شقة أو شقتين متداخلتين:
الشيخ حسن المبيريك،* من بلدة الملاحة، وهو من الطلبة المعروفين في خطابته.
السيّد مرتضى السّادة، من بلدة أم الحمام، من الطلبة المميزين، وعنده كتاب *المحرّر في شرح قاعدة (لا ضرر)،* تقريراً لأبحاث الشيخ علي المروجي.
الشيخ علي المشهد، من بلدة عنك، وهو من الطلبة المعروفين بتواضعه وأخلاقه.
– الشيخ علي الجنبي، من بلدة حلة محيش، وهو من المعروفين منذ صباه في الخطابة.
– السيّد محمد رمضان، من بلدة التوبي، وهو من المعروفين باللطافة.

توقيت غريب!
في ليلة من الليالي كنّا في سُبات عميق، فانطفأ تيار الكهرباء، وهو أمر معتاد في القرى في سورية. وعند استيقاظنا لصلاة الصبح، انخفضت درجة حرارة الماء الموجود في السّخان، لدرجة لم نتمكّن من الاستحمام. فجلست أنا في حرج؛ إذ كنت بحاجة لغسل الجنابة، وكنت أحتمل أنّ بقيّة زملائي في الشّقة سوف يسبغون الوضوء ومن ثم يؤدّون صلاة الفجر، إلّا أنّ المفاجأة غير السّارة بالطبع، ما صرّح به أحد الزملاء أنه كان أيضاً بحاجة لغسل الجنابة، حتّى اعترف الجميع بأنّهم على جنابة، ولا بُدّ من الاغتسال، وكانت مفاجأة محرجة مضحكة غريبة في آنٍ واحد، ونحن ستة أشخاص.

الدروس الأولى
في بداية دروسي في حي السيدة زينب (ع) كنت قد التحقت في درس كتاب (شرائع الإسلام) للمحقّق الحلي، عند أحد الأساتذة (لا يحضرني اسمه الآن)، من مملكة البحرين، وكان الدرس جيّداً ومتواضعاً كمعظم حالات الدراسة الحوزوية.

أمّا الدرس الثاني فكان في كتاب *(مختصر المعاني)* لسعد الدين التَّفْتَازَانِي (722هـ – 792هـ)، وهو الكتب البلاغية، وكان الدرس عند أستاذي الشيخ علي الشّملاوي حفظه الله، درساً خاصاً كنت أحضره وحدي في مجلسه، وكما بدأت في دراسة هذا الكتاب طويت آخره بما يقرب من سنة كاملة، ولله الحمد.

شيخي وأستاذي
كان الشيخ الأستاذ الشّملاوي من المدرّسين الجادين، والمحصّلين المميّزين، وعنده تحقيق كتابين:
1. شرح النَّظام، لنظام الملة والدين النيسابوري، من أعلام القرن التاسع الهجري، وهو كتاب في علم الصّرف. وقد درست الكتاب مطبوعاً على الطباعة الحجرية قبل أن يحقّق، عند أستاذي المخلص محمد العبيد، وهو من أساتذة بلدة القديح، وهو يعمل لدى أحد القطاعات الحكومية، لكنّه يدرس دراسة حوزوية.
كنت أدرس عنده قبل طلب العلم رسمياً بأشهر قليلة جداً، وكان الأستاذ حينها يسكن في بيت أبيه رحمه الله، وأنا أسكن في بيت أبي، وكنّا جيراناً، وباللفظ الشعبي: الباب بالباب.
وهو أيضاً حقّق الكتاب، أعني الأستاذ العبيد، قبل سنوات قليلة، ويعد هذا التحقيق جهداً كبيراً لا يجهده إلّا الأقلون.
2. ديوان نبضات الولاء، للشاعر الخطيب سعود الشملاوي من أم الحمام (1322هــ- 1425هـ)، وهو أبو الشيخ الأستاذ، وقد تعاونت مع الشيخ الأستاذ على تحقيق وإخراج الديوان إلى النور في أيام دراستي في السيدة زينب (ع)، حيث أجرينا بعض التغييرات وأضفنا ما كان بحاجة إلى شرح وإيضاح حتى تمّت طباعة الديوان والحمد لله.

الإبداء، لا البداء!
وعنده كتيب باسم (الإبداء)، وبقصد بالإبداء البداء، المصطلح المشهور عند الإمامية، وهو من المسائل الكلامية، والمراد منه: أنّ مصير الإنسان في حالة تبدّل وتغيّر من قبل الله عزّ وجلّ، وهذا التغير والتبدّل يكون بحسب أفعال الإنسان، فمثلاً قد يكون الله قد كتب لإنسانٍ العيش لمدة خمسين عاماً، ولكنّ هذا الإنسان كان يصل رحمه فيمدّ الله في عمره إلى سبعين عاماً؛ بسبب صلته لرحمه، وقد يكون الأمر بالعكس، أي: إنّ الله كتب لعبد أن يعيش سبعين سنة ولكن كان عديم البر بوالديه، فينقص الله من عمره ويميته في سنّ الخمسين.

من أهم الآيات الدالة على البداء: قوله تعالى: *﴿يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ﴾[الرعد: 39]، وقوله تعالى: *﴿ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَىٰ قَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ ۙ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾* [الأنفال: 53]، وقوله تعالى: *﴿لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ…﴾ [الرعد: 11].

وأما الشيخ الأستاذ الشملاوي فيذكر أنّ لفظ (البداء عند الله) سبّب التباساً في الفهم عند البعض، وكأنّما الله قد جهل، وحاشا لله، فالأقرب ـ بحسب رأيه ـ أن نسمّي البداء: الإبداء.




error: المحتوي محمي