ضَوَابِطُ الإصْلَاحِ

مِنْ الجميلِ امتطاءُ ولِبْسُ ثوبِ الهدايةِ والتُّوجيهِ، لكن لا بد أَنْ لا يصلُ الأمرُ بمن يسيرون في هذا الاتجاه في أَنْ يَكُونَ التظاهرُ هو شغلهم الشاغل في إظهاره عَلَى عامةِ الناسِ والبسطاء منهم، والبعد بذلك عنْ هدف الإصلاحِ ذاتهِ، يا حبذا لو تم استغلال ما عندهم مِنْ طاقاتٍ ومواهبَ وإمكاناتٍ وصبَّها في مصبِ الخيرِ لكانَ ذلكَ أجدى وأنفع لهم ولمن حولهم.

وعند النظر بنظرة موضوعية وتأملية فاحصة فِي شريطِ عملهمْ وواقعهمْ ومراقبة لمُجملِ تحركاتهمْ ستجدُ أنَّ هنالكَ الكثيرَ مِنْ المشوباتِ التي تعكرُ صفوَ هذا الماءَ الراكدَ الصَّافي لديهم وهذه الجهود المبذولة من قبلهم .

فهم عندما يطرحون مشكلة ما فهم ينظرون إلى الحلولِ بمعزلٍ عَنْ الإحاطةِ بمجملِ زوايا الحدثِ، يفتقرونَ عَنْ إدراكِ خواتيمَ الأمورِ وما سوفَ تؤول لهُ تصرفاتهم هَذِهِ مِنْ ارتداداتٍ عكسيةٍ؛ تعيقُ وتبطلُ ما اقترحوهُ وتناولوهُ.

ساقهمْ في اتباع هذا التوجه هو وجود نزعة محورية حَوْلَ ذواتهم وشعورهم بنقصٍ وحرصهمْ عَلَى الظهورِ فِي كُلِّ وادٍ ومحفلٍ يرافق ذلك عادةً غيابٍ للمعلومةِ الموثقةِ عندهم، لجهل أو لتعمد منهم في كثيرٍ مِنْ الأحيانِ في عدمِ رغبتهمْ لاستيعابِ الحالةِ والكيفيةِ التي ينبغي عليهم اتباعها، ويرجعُ ذلكَ في المجملِ لخللٍ في ضابطةِ العلاقةِ التي تربطهم مع الباري جلَّ وعلا وعدم اطلاعهم لضوابط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر التي سنأتي لذكرها وبيانها تاليًا.

جاء عَنْ أميرِ المؤمنينَ (ع) أنهُ قالَ: “مَنْ أصلحَ ما بينهُ وبينَ اللهِ سبحانهُ أصلحَ اللهُ ما بينهُ وبينَ الناسِ، ومَنْ أصلحَ أمرَ آخرتهِ أصلحَ اللهُ لهُ أمرَ دنياهُ، ومَنْ كَانَ لهُ مِنْ نفسهِ واعظًا كَانَ عليهِ مِنْ اللهِ حافظًا.”
وقال عزَّ مِنْ قائلٍ: [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ]. [آل عمران : 104]

وعن النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أنّه قال: (لا تَزَالُ أُمَّتِيْ بِخَيْرٍ مَا أَمَرُوْا بِالمَعْرُوْفِ وَنَهَوْا عَنِ المُنْكَرِ وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ، فَإِذَا لَمْ يَفْعَلُوْا ذلِكَ نُزِعَتْ مِنْهُمُ البَرَكَاتِ وسُلِّطَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ نَاصِرٌ فِيْ الأَرْضِ وَلا فِيْ السَّمَاءِ).

وعنْ الإمامِ أميرِ المؤمنينَ (عليهِ السلام) أنّه قال: (لا تَتْرُكُوا الأَمْرَ بِالمَعْرُوْفِ وَالنَّهْيَ عَنِ المُنْكَرِ فَيُوَلَّى عَلَيْكُمْ شِرَارُكُمْ ثُمَّ تَدْعُوْنَ فَلا يُسْتَجَابُ لَكُمْ).

للأمرِ بالمعروفِ والنَّهي عَنْ المنكرِ عدّةُ مراتبٍ:
الأولى: أَنْ يأتي الشخصُ بعملٍ يظهرُ بهِ انزعاجه القلبي وتذمّره مِنْ تركِ المعروفِ وفعلِ المنكرِ.
الثانية: أَنْ يأمرَ بالمعروفِ وينهى عنْ المنكرِ بقولهِ ولسانهِ، سواءً أكانَ بصورةِ الوعظِ والإرشادِ أم بغيرها.
الثالثة: أَنْ يتّخذَ إجراءاتٍ عمليّةً للإلزامِ بفعلِ المعروفِ وتركَ المنكرَ، كفركِ الإذنِ والضربِ والحبسِ ونحوَ ذلكَ.

ولكلِّ مرتبةٍ مِنْ هَذِهِ المراتبِ درجاتٌ متفاوتةٌ شدّةً وضعفًا، واللازمُ الابتداء بالمرتبةِ الأولى أو الثانية مع مراعاةِ ما هو أكثر تأثيراً وأخفّ إيذاءً والتدرّج إلى ما هو أشدّ منهُ.

وهذهِ الآخيرةُ تكونُ فِي عُهدةِ الجهاتِ المعنيةِ مِنْ حاكمٍ شرعي وجهاتٍ مخولةٍ يناطُ بها مثلُ هذا الأمر حتى لا تعمُّ الفوضى ولا تخضعُ لاجتهاداتٍ مِنْ هذا الطرفِ أو ذَاكَ.

كذلكَ ينطبقُ الأمرُ فيما يختص ملاحظة قصور في جهة خدمية عامة؛ إذ ينبغي معرفة منافذ مخاطبة هذه الجهات بالطرقِ النَّظاميةِ المتاحةِ والبعدِ عنْ إشاعةِ خللٍ ما عبرَ وسائلِ إعلاميةٍ خاصةٍ لكونَ مؤدى ذلكَ في أَنْ يَكُونَ ضررهُ أكثرَ مِنْ النفعِ المُرادُ تحقيقهُ والوصولِ إليهِ.

هنالكَ طرقٌ ووسائلٌ وضوابطٌ للأمرِ بالمعروفِ والنَّهي عَنْ المنكرِ مِنْهَا:
1- أَنْ يَكُونَ الشخصَ الآمرِ بالمعروفِ والنَّاهي عَنْ المنكرِ عارفًا بالمعروفِ والمنكرِ.
2- أنَّ يحتملَ انصياعَ المأمورِ بالمعروفِ بأمرهِ وانتهاءِ المنهي عَنْ المنكرِ بنهيهِ. ولو عُلم أنهُ لا يبالي ولا يكترثُ بأمرهِ ونهيهِ لَمْ تجبْ المرتبتانِ الثانية والثالثة، ويقتصرُ الوجوبُ على المرتبةِ الأولى على الأحوط، وهو إبداءُ الانزعاجَ والتذمّرَ ممّا يرتكبهُ فاعلُ المنكرِ أو تاركُ المعروفِ وإنْ عَلِم عدمَ تأثيرهِ فيهِ، وذلك امتثالًا لأمر النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كما حكاه لنا الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) قائلًا: (أَمَرَنَا رَسُوْلُ اللهِ -صلّى الله عليه وآله وسلّم- أَنْ نَلْقَى أَهْلَ المَعَاصِيْ بِوُجُوْهٍ مُكْفَهِرَّةٍ).
3- أن يَكُونَ تاركَ المعروفِ أو فاعل المنكرِ بصددِ الاستمرارِ على تركِ المعروفِ وفعلِ المنكرِ. ولو عُرف مِنْ الشخصِ أنّهُ بصددِ المُنكر أو ترك المعروف ولو لمرّة واحدة وجب أمرهُ أو نهيهُ قبلَ أَنْ يفعلَ ذلكَ.
4- أَنْ لا يَكُونَ فاعلُ المنكرِ أو تاركُ المعروفِ معذوراً في فعلهِ للمنكرِ أو تركهِ للمعروفِ.

5- أَنْ لا يخافَ الآمر بالمعروفِ والناهي عن المنكرِ ترتّب ضرر عليه في نفسهِ أو عرضهِ أو مالهِ بالمقدارِ المعتدِّ بهِ أو بأحدٍ مِنْ المسلمينَ جرّاءَ أمرهِ بالمعروفِ ونهيهِ عَنْ المنكرِ.
المصادرُ:
1- القرآن الكريم.
2- نهج البلاغة.
3- منهاج الصالحين.



error: المحتوي محمي