ليس من نافذةِ النكد المؤذي تُطرح هذه الفكرة، بل من باب المحبَّة الواسع. القارئ الكريم إذا حضر دورةً تدريبيَّة قصيرة أدركَ الفارق بين المدرِّب الجيِّد وغير الجيِّد. والقارئ يعرف بالخبرة والتجربة ماذا تعني وتفيد هذه المناسبة في تثقيف من يحضر، مقارنةً بمن ليس عندهم هذه الفرص والمناسبات التثقيفيَّة!
{وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا}، من هنا تبدأ مسؤوليَّة من يفكر، ومن هنا تبدأ مسؤوليَّة الخطباء في شهرِ محرم. الإحياء والإنقاذ من الموتِ الفكريّ ليس أقلّ أهميّة من الإنقاذِ من الموت الجسديّ الذي نعرفه، موتُ الفكر أشد فتكًا وضررًا.
الفكر يشبه الماء، ينفع إذا جرى وتجدَّد، كما يأسن ويصبح فاسدًا إذا ركد! وهذا هو سببٌ رئيس في تقدم مجتمعاتٍ وتخلّف أخرى. في أحدها فكرٌ فيه روحٌ تتجدَّد، وفي مجتمعاتٍ أخرى فكر ميِّت، جامد في مكانه، يدور مثل الطاحونة والحنطة.
فرصة في نحو ستّ ساعات -أو أكثر- أن يعرض الخطيب فكرةً جديدة، إما بكيف أو ماذا! إذ لا تقتضي ضرورة التجديد والتحديث الركض وراء كل ما يستجد من حوادث وأطروحات. بل إن بعض الأطروحات القديمة يمكن تزيينها وإلباسها لباسًا يُظهر منفعتها وفوائدها، أفضل من فكرةٍ جديدة قد لا تساوي فلسًا!
طوبى لمن يعمل بنشاطٍ وهمَّة ويجدّد، وهم كثر. على المجتمع أن يشكرَهم ويثني عليهم ويختلف معهم ويُناقشهم! الأفكار تُجلى بالنقاش الراقي كما تجلى السكاكين بالجلخ. من محاسن هذا العصر أننا نعتقد أنّ فكرنا أعمق من فكر من سبقونا، وسائط العلم أكثر والتواصل بين المجتمعات أوضح. ولم يعد أي منا يقتنع بفكرة، فقط لأن خطيبًا قالها!
أُثني على من يشارك أطروحاته مسبقًا! هناك في الحاضرين من يقرأ عنها قبل حضور الحصَّة الخطابيَّة، وهناك من يستزيد من المادة بعد الحصَّة الخطابيَّة. وليس خطأً أن يسأل منظموا الحصص الخطابيَّة الخطيبَ عن أطروحته ويناقشوهَا معه مسبقًا! إذا استأجرنا عاملًا بسيطًا لمدَّة ساعة من أجل صيانة منزليَّة سألناه عن خطَّته وتَحاورنا معه فيها، فلماذا لا نفعل ذاتَ الشيء في أمرٍ أخطر وأهمّ؟!
نعم، يوجد من يخشى التجديد، يوجد من لا يستطيع التجديد، ويوجد من لا يهتمّ في التجديد لأن المستمع والمتلقي لا يطالبه بالتجديد! كلهم -إن شاء الله- لهم مريدونَ ومحبون. أما من في قدرته التجديد والإفادة، ليفعل، النَّاس يشكرونه، والله أيضًا يشكر عمله ويقويه!