إن الفعل الاجتماعي هو كل طريقة في التفكير والشعور والسلوك وجهتها مبنية حسب النماذج التي هي جمعية (تعني أنها مشتركة بين أعضاء الجماعة).
عالم الاجتماع الكيبكي د. غي روشيه (الفعل الاجتماعي مدخل إلى علم الاجتماع العام)، ترجمة الدكتور مصطفى دندشلي الصفحة 53.
طالعت الفترة الأخيرة (بعثة إلى الجحيم) والتي هي عبارة عن كتيب صغير لم تتجاوز صفحاته الـ85 صفحة لمؤلفه الاختصاصي النفسي جلال عبدالناصر، وأعجبتني الفكرة التي خطط ونفذ فيها رحلته الحالية، هذا إن كنت قد أصبت الهدف وفهمت ما يرمي إليه بدقة.
وبلغة أخرى هي قراءتي السوسيولوجية لهذا الكتاب؛ الذي هو عبارة عن مجموعة من القصص لنماذج بشرية تورطت بشكل أو بآخر في الإدمان على الحشيش، أو ما يشبهه من أنواع المخدرات.
لا يكتفي الكتاب بتسليط الضوء على هذه الشخصيات فحسب، إنما حاول الكاتب أن يختار عيّنات من هذه الوجوه (نماذج) البشرية، كل شخصية لها أبعادها المنفردة، ولها أحوالها وظروفها الاجتماعية.
أهدافنا في عالم شديد القسوة: شخصيات عبدالناصر لم تكن شخصيات فارغة أو هامشية، بل هي نماذج بشرية لها طموحاتها، وأحوالها، اصطدمت بصخرة الواقع الخارجي وما فيه من مخاطر، كما أي إنسان منًا يدخل إلى هذا العالم الخارجي، والذي لا يعطيك قيادة بمرونة، وسهولة.
كتيب عبدالناصر نقلني من حيث الخيال إلى التجربة التي نجحت فيها في العام 1997م، عندما استعرضت كتاب عالم النفس الأمريكي (بول هوك) وقتها تمكنت من الفوز بجائزة الشرق الأوسط في استعراض كتاب لذلك العام، والفضل يعود في نظري إلى أشياء كثيرة، ومنها الاختيار الناجح لنوعية الكتاب.
والعنوان الذي اخترته لتلك القراءة هو (أهدافنا في عالم شديد القسوة) علمًا بأن العنوان الأصلي للكتاب هو (لكي تنجز أهدافك).
إن العلاقة بين ما سطره هوك، وبين ما سطره عبدالناصر علاقة كبيرة مع الاحتفاظ بالفاصل بين الشخصيتين، وهذا لا يغمط من حق عبدالناصر قيد شعرة، فكلا المؤلفين سطرا كتاباتهما من خلال العمل العيادي الإكلينيكي سواء كانت الشخصيات التي قدماها حقيقية أو من نسج الخيال بهدف تسليط الضوء على هذه النماذج وظروفها، وعرض ملخص عن مشكلتها، أو الصعوبة التي تواجهها في هذه الحياة.
ثمة فارق آخر يجب أن نعترف به وهو أن بول هوك كان أكثر تفاؤلًا من عبدالناصر، فهو يسير بك إلى حيث المأزق التي تعيشه شخصياته، وصعوبة التكيف التي تواجهها، لكنه في الأخير يحاول إنقاذ هذه الشخصيات، والخروج بها من براثن الواقع القاسي، بينما أحجم كاتبنا عبدالناصر عن التطرق إلى أوجه الحلول لهذه الشخصيات، إما لأنه فضّل الحيادية الأدبية محاولًا صياغتها على شكل قصص قصيرة، دون التدخل في حياة شخصياته الأدبية؛ أو لأنه يائس من خروج هذه الشخصيات التي تورطت في إدمان الحشيش، أو تهريبها من الخروج من النفق المظلم.
بشكل عام أنا إيجابي ومتفائل تجاه هذه التجربة التي سار عليها الاختصاصي النفسي جلال عبدالناصر في ظل الافتقار للدوريات، والكتابات المشابهة في هذا الصدد، وربما ينتقل هذا الاختصاصي من بعثة إلى الجحيم هذه، إلى رحلات أخرى أقل مخاطرة، وأقل كلفة، وأكثر تفاؤلًا في التكيف مع هذا الواقع الذي لا ننكر جميعًا قساوته.
شخصيات مربكة.. وواقع مظلم: ربما أول ما يلفت نظر القارئ الكريم، هو الرحلة التي أطلق عليها الكاتب جلال الناصر هي بعثة إلى الجحيم، وكنت أتوقع وأتمنى ألا تكون الجحيم، والبعثة إليها هي مصير جميع شخصيات هذه المجموعة القصصية؛ أقول مجموعة قصصية اصطلاحًا، إذا ما تخطينا الجدر الإسمنتية التي يضعها بعض الناقدين لأساليب وتكتيكات القصة القصيرة، الأهم من وجهة نظر سوسيولجية هو وجود الحدث في ما يرويه لنا الكاتب، وكنت أتمنى من الكاتب والاختصاصي جلال الناصر أن يترفع قليلًا في الحكم على الأحداث والشخصيات القائمة، والاكتفاء بتوصيف الأحداث والنتائج المترتبة عليها.
المهم الذي أراه أن الرجل مليء بالقصص والأحداث، والذي نتوقع منه أن يصدر مجموعات أخرى. وهو بذلك يسهم بصورة إيجابية، في رفع الوعي الصحي للأخطار والكوارث المحيطة بالمجتمعات.
حالة الإرباك الحياتي كانت مسيطرة في حياة جميع الشخصيات المتصورة في رحلة عبدالناصر الجحيمية، ملمح آخر ومشترك بين هذه الشخصيات وهو الظروف الاجتماعية السيئة التي عايشتها هذه الشخصيات، الأمر الذي أدى بهم للوصول إلى منحنيات خطيرة، وبعضها مميتة.
فمن قصة (دومنيكا) ص 11- 24 نتعرف على فؤاد الذي سافر إلى الإمارات. وقابل الشقراء (دومنيكا) وصيرته مدمنًا على المخدرات، ولديه شكوك في أنه قد يحمل فيروس نقص المناعة (الإيدز) في داخله.
أما في (ربوة الفردوس) ص 25- 36 تدخل شخصية (مها) التي عشقت (حاتم) المصاب بفقر الدم المنجلي، لتخرب العلاقة بين حاتم وزوجته (بلقيس) انتقامًا من عدم الزواج منها، عن طريق التشكيك في العلاقة القائمة بين هذه الشابة (بلقيس) المتزوجة ومديرها المباشر في العمل، وإيصال ذلك إلى حاتم. حاتم الذي يحمل بداخله بذور الشك والقابلية للانحراف، وجد نفسه منجرفًا نحو المخدر، عن طريق التقرب من حارس مبنى الشركة، الذي لمح في عينيه علامات تعاطي المخدرات، ولم يتأخر في اللحاق بربوة الفردوس المتصورة لديه. خصوصًا أننا نعرف أن حاتم مريضًا بفقر الدم المنجلي (كما تحكي القصة)، وبالتالي فإنه جرب الانكواء تحت مصاعب تكسر الدم وآلامه المبرحة، وجرب الخروج من هذا البلاء، وربما تولدت عنده فكرة الهروب من الهموم المعيشية، والأفكار الثقيلة على الرأس.
أما (بعثة إلى الجحيم) ص 37 – 48 وهو العنوان الذي اختاره الكاتب عنوانًا لمجموعته، فيلقي الضوء على قصة الفتاة (كوثر) البريئة التي سافرت في بعثة للخارج، وتدرجت في الصحبة مع ماجد، واختصارًا تدرجت من شرب البيرة إلى إدمان الحشيش. كان أمامها فرصة للإصلاح والعودة عن هذا المسار، لكنها اختارت مواصلة الطريق الشائك، وفي نهاية المسار، وفي يوم شتوي، (وكانت قد تعاطت المخدر) تدهورت بها سيارتها، وقضت وهي تحت تأثير مادة الحشيش، وبالتالي صدق عليها كلام الكاتب، وفي شطحته الخيالية تصور أن بطلة قصته عندما خرجت من البلاد إلى الابتعاث، كانت بعثة إلى الجحيم برأي الكاتب.
وهكذا سارت قصص عبدالناصر في (أصابع البرشا) ص49-60 التي حكت قصة شخصية خالد الشكاكة، ووجود مصطادين يغذون هذا المرض فيه، وينصبون شباكهم، ليجروه إلى مصيدة الحشيش.
وكذلك (سامر في مهب الريح) 61-74 التي سردت لنا قصة أحد الرياضيين الذي احترف الرياضة، لكنه وقع في براثن إدمان الكبتاجون.
ولنا وقفة أمام نموذج ياسر الشاب الخجول في قصة (الصاعقة) ص 73-85، والذي لا يحظى بأي تقدير أو تشجيع أو ثقة، من قبل والديه، فجأة تخرج شخصية محمد صالح الذي يحمل اسمًا آخر (شرحبيل) ويخبره أنه واقف إلى جانبه، هذه العصابة التي احتوته، ولم يخجلوا في استخدام أساليب قذرة ومنها الاغتصاب الجنسي، وهذا ليس مستغربًا من العصابات الإجرامية، يقودهم الشيطان إلى جميع الموبقات.
وهكذا تكتمل صورة شخصيات رحلة عبدالناصر المربكة، والمعقدة نفسيًا، ومعظمهم ينتمون إلى أسر بها بعض الشروخات الاجتماعية، أو التفكك الأسري، نضم أيدينا إلى الكاتب في تسليطه الضوء على مثل هذه الشخصيات، أو غيرها، مع رغبة داخلية في أن يكون أكثر تفاؤلًا في المرات القادمة بشكل أكبر مما أتحفه لنا في هذه المجموعة من ضلال وظلام دامس، والله ولي التوفيق.