بالعادة نرى الحاجة للتلقين في بدايات العمر حين نعلّم أطفالنا بعض الآداب أو التعليمات لكيفية التصرف والحديث فهم بمراحلهم العمرية الأولى يكونون وعاء لما نفرغه نحن عليهم، وإذا كبروا ووصلوا لمرحلة أعلى من الطفولة فهنا يتوقف التلقين ويأتي دور التوضيح وإيصال الفكرة بعمق لتكون راسخة بأذهانهم وليست بمقام القص واللصق لما يفعله الأكبر منهم.
وقد نستشعر قبح التلقين حين يكون أمام الناس فحصة التعليم بالتلقين لا تأخذ مجراها بالتعليم الحقيقي لأنها دخلت بحصة التوبيخ والإحراج أمام الناس الذي يبقى فيه أثر الإحراج ولا يكون الدرس مفيدًا وثابتًا.
نعم يخشى الكثير من نظرة الناس له أنه لم يُحسن تربية أبنائه ولم يُعلمهم أساسيات التعامل مع الغير كقول شكرًا لكل من يقدم له شيئًا جميلًا، ويقول آسفًا حال خطأه في حق أحد، وحتى لو هو قد قام بالتعليم والتهذيب ولكن يجوز جدًا أن تغيب بعض المفردات من الأولاد والبنات خاصة إذا كانت أذهانهم منشغلة بشيء ما فلا يعيرون اهتمامًا لمثل هذه الأمور مثل الكبار.
المشكلة ليست بنسيان فتى أو فتاة تقديم شكر أو أسف حال الاحتياج وعدم اهتمامهم بها، المشكلة حين يصل الشخص لعمر الراشدين ولا يزال يحتاج من يلقنه متى يقول شكرًا ومتى يقول آسفًا.
قبيحة هي الصورة التي ترتسم حين نجد كبيرًا بسن الراشدين وربما بان الشيب عليه ويُطلب منه شكر أحدهم ممن أسدى له معروفًا أو يعتذر له لخطأه ومع هذا يكابر، وحتى دون مكابرة الصورة قبيحة حين نجعل الآخرين من يعلمونا ماذا يفترض أن نقول؟ فمتى ترانا نرى الجميل جميلًا لنشكر الآخرين عليه، ومتى نرى القبيح قبيحًا منا حتى نعتذر عنه؟
ثقافة الشكر والاعتذار ليست مخصصة بعمر محدد وفئة عمرية معينة هي لكل فصول العمر نحن نشكر والدينا لأنهما أساس وجودنا بالدنيا، ونعتذر عن تقصيرنا بالوفاء بحقهما علينا.
في أحد الأيام وجدت أحد السائقين الذي أوصل إحدى الأخوات قبلي وكأنه يتذمر حال نزولها بقوله من لم يشكر الخلق لم يشكر الخالق، ولا أعلم إن كان هناك قصة وراء كلمته، ولكن ما شعرت به أن أي شخص يقوم بوظيفة معينة وحتى لو كان يقبض أجرة فهو يحتاج لكلمة طيبة تشكره.
حتى لو كان الطبيب مثلًا يتلقى أجرًا عاليًا فما المانع من شكره حال أداء وظيفته معنا فهو ساعدنا على تجاوز حالاتنا المرضية وخفف من ألمنا؟
المعلم يُعطينا شيئًا من علمه ويبسّطه لنا ليسهل فهمه وحفظه، ما الذي ينقصنا حين نكرمه ولو بكلمة؟
السائق الذي يوصلنا للمكان الذي نريد حال تعطلنا هو نعمة سخّرها الله لنا كي لا نتأخر عن موعدنا المهم، فهل سيؤثر إن أهديناه دعاء رحمة لوالديه حتى لو قبض ثمن خدمته؟
كثير من الوظائف نصادفها بتعاملاتنا اليومية ولكن للأسف هناك من يمشي بمقياسه المادي البغيض فيتعامل مع الآخرين وكأنهم عبيد بمجرد دفعه لنقوده لهم وكأن لا مشاعر لهم لو أحرقهم بلهيب كلامه.
لو توقف كل العاملين عن العمل فالجميع سوف يتعطل، فحين يتوقف الكهربائي عن العمل فمن يصلح الكهرباء إذا انطفأت، ولو توقف الميكانيكي عن العمل فلن ترى سيارات متعطلة تمشي من جديد بدونه، وقس على ذلك بالمزارعين والطباخين واللحامين والمهندسين والبنائين والنجارين وغيرهم.
الله خلقنا مسخرين لبعضنا البعض ليعاون واحدنا أخاه في طريق العيش، فيعين الغني الفقير ويتشارك معه الهم ويساعده على تجاوزه بعطائه، وأقل العطاء كلمة طيبة لا تمس مشاعره وتجرحها بل تكون بلسمًا وجبرًا لخاطره الذي قد يكون مكسورًا من غيره.
لا أعلم لما يستصعب البعض قول كلمات الشكر مثل؛ شكرًا، الله يعطيك العافية، رحم الله والديك، تسلم يدك وغيرها.
بالمقابل هناك صعوبة أكثر ربما بمجال الاعتذار فكبرياء النفس يأبى النزول لموضع الاعتراف بالخطأ والإقرار به بكلمة “آسف” خاصة أمام من يعتقد أنه أقل منه شأنًا ومكانة فإنه يأنف ويستثقل طلب المعذرة منه.
ثم لما الخوف من الاعتذار؟ أيخاف ألا يقبل اعتذاره؟ إذن فلنبشر الخائفين أن الروايات تقف مع المعتذر حتى لو كان كاذبًا!
الإمام زين العابدين (عليه السلام) يقول: “لا يعتذر إليك أحد إلا قبلت عذره، وإن علمت أنه كاذب”.
ويقول بأحد أدعيته: “اللهم إني أعتذر إليك من مظلوم ظلم بحضرتي فلم أنصره، ومن مسيء اعتذر إلي فلم أعذره”.
والأعظم والأخطر ما قاله رسولنا الأعظم محمد (ص): “من اعتذر إليه أخوه المسلم من ذنب قد أتاه فلم يقبل منه لم يرد على الحوض غدًا”.
روايات كثيرًا تحث على قبول العذر ليكون الاعتذار متداولًا ومقبولًا والقلوب متسامحة ولا تحمل أي ضغائن لأمور لم يتم الاعتذار عنها.
إذا مازلنا للآن لا نستطيع تقديم الشكر للمخلوقين فكيف نقدم الشكر للخالق حيث “من لم يشكر المخلوق لم يشكر الخالق”؟
إذا مازال كبرياؤنا يمنعنا من الاعتراف بالخطأ والاعتذار كيف له أن يدعنا نعترف أمام الله ونعتذر إليه إذا عجزنا عن الاعتذار لخلقه؟
جهلنا واعتدادنا بأنفسنا يجعلنا نرفض حتى التلقين الصحيح، والجاهل كل ما يحتاجه هو معلم ليهديه طريق العلم، وإن سألتني عن المعلم فالعين ستشير لمن بقر العلم بقرا.
يا شهر ربي أنا جاهلة بك وبقداسة التعامل فيك بالشكر والاعتذار لهذا حتى لو أتيت لك متأخرة بطلب العلم بآخر أيامك ولكن سأطلب اليوم تمرة إفطاري من يد من أهداه الرسول (ص) سلامّا مرّ عبر السنين ليصل بالأخير ليرسم كرامة لنور علم إمامنا الباقر (ع) لعلّنا نستوعب قيمة هذا السلام الذي يفسر لنا جملة “العلم نور” والنور بالطبع سلام وأمان من ظُلمة الجهل التي تهوي بنا لمهاوي الهلاك.