أمي من فريق الأطرش (10)

أجول بالنظر في رابعة النهار، مفتونًا بامتدادات البحر، مراكب صيد منثورة على الساحل، تتراقص الموجات بإيقاع متواصل، ترتطم بجدران المنازل، رشات مالحة تدخل عنوة عبر الأبواب والنوافذ، وقفت مبهورًا بينما خالي يراقبني بابتسام، بللت أقدامي فانتشيت، أطفال يصطادون الأسماك الصغيرة والنوارس، فتنة مشهد غمرتني بوشائج الأمنيات، يرتد طرفي برمشة حلم، فأصبت بلهفة ظمأ، يا ليت بيتنا بجوار اللازورد. أدركنا العطش من شدة الحر والتحريج على بضاعتنا الخضراء، ارتشفنا بملء كفوفنا من عين السيف.

قال خالي: كم صرة بقيت في المراحل؟ أجبته صرتان! ناديت: “بقل ورويد آخر حبتين، حياكم يا أجاويد “. خرجت امرأة من بيت العشيش (كبر) ترتدي ثوبًا هاشميًا يتدلي من على رأسها “مشمر” مشجر، وفي يديها حبات أرز، تلوك لسانها من بقايا أكل، أدركت أنها “فزّت” من سفرة الغداء، وأتت إلينا مسرعة، ناولتها آخر صرتين عند ظل الباب، فأعطتني قرشين رائحتهما سمك مشوي، وقالت: “لو كان غدانا فيه اشوية لجبت ليكم صحن عيش، أنت من وينه يا ولدي”، أجبتها “من تاروت وذاك خالي من فريق الأطرش، أبيع وياه في عطلة المدرسة”.

“الله يبلغ أمميمتك في عرسك، وإن شاء الله تكون مريتك من السنابس”! كنت أنظر لوجهها المتهلل حنانًا ومن خلفها منارة شيخ محمد بلونها الأبيض شامخة في السماء، عبارتها مألوفة تسري على الألسن “الله يعرسك” تتقاطع مع جملة (قواك الله)، لكن صدى كلماتها تتناهى ترددًا لمسجد يوجب الدعوات عفوًا أو قصدًا، والظهيرة هجعة المتعبين المأخوذين بالنذور، دعوة تلك المرأة لم تخب، فبعد عشرين عاما مال قلبي شرقًا تاركًا كل الجهات، شريكة حياتي بيتهم على بعد خطوات من عين السيف وزمن القول كانت هي في عالم الذر، وحسب كلام عمتي أثناء الخطبة “بنتي محتركة في وجهك”. خالي يولع سيجارة وينفثها غناء “أربع وستين أخضر مرني في طريق الخرج محبوبي معاه، نور عيني لمن شافني تستر بالعباءة واستحى مني”، أغنية حجاب مبعثها البشتخته القديمة، قفلنا راجعين بعد يوم معبأ بالذكريات العطرة، سردت مشاهداتي لوالدتي مريم وهي تهز رأسها بامتنان ثم فاضت بالكلام وجعلتني أرى السنابس وكأني لم أرها بعيني العابرة. أجابتني باستئناس عن أمنيتي المفضلة حسب رؤياي ليت بيتنا يطل على البحر وأن يكون فريق الأطرش على مرمى حجر.

بيّنت لي أن أماني الحالمين لم تكن بعيدة، فقد تحققت لأناس من تاروت بارتحالهم للسنابس، وذكرت تحديدًا العوائل التي انتقلت من الديرة وسكنت السنابس:
* عائلة دغام مع(عائلة آل جبران التي سكنت الربيعية) كانوا جيرانًا، ونازلين مكان بيت عمك عبدالرسول الحالي “بيوتهم من جريد النخيل”.

* عائلة المؤمن.
* عائلة حجي عبدالله السني.
* عائلة آل تركي.
* عائلة الكواي.
* عائلة البحارنه.
* عائلة مغيزل.
* والشيخ على بن يحي.
* عائلة آل جابر.

وهناك عوائل أخرى من أرض الجبل والخارجية والقاطنون وسط النخيل؛ عائلة الكرانات وآل طلاق، وقنمبر والجنوبي، وعند نهاية الستينات وعلى مدى ثلاثة عقود لحقت بهم أيضًا عوائل أخرى، الظريف، والحماقي، وآل عمران وغيرهم.

طاب لوالدتي أثناء سرد ذكرياتها التوقف عند آل جابر بحكم القرابة، بأن العائلة أغلبها كانت تسكن تاروت، قبل الارتحال من منطقة الديرة، فقد قسموا بيتهم إلى قسمين؛ القسم الشرقي بقي فيه المحسن بن جابر المختص بحسونة الشياب، والجزء الغربي اشتراه الحاج عبدالكاظم والد ملا عبدالرسول البصاره.

واستشهدت أمي بكلام والدتها “أمي تعلمنا، تقول الناس: هذا بن جابر بهيم مخلي الديره سلطانية، تحتها السوق وتحتها العين ورايح يسكن في وينه، يسكن في السنابس البعيدة، أيه ما يدرون عن الدنيا ويش بتصير تالي”! كلام أمي يأخذ مداه عبر منحنيات ذكرياتها في عهد الصبا، ابتدأ من منازل أقاربها، ومعارف جدتي، بوصف الأمكنة والناس، فيض شوق واستئناس لوجوه الغبطة، قبلات معطرة برائحة المشموم.

أستجمع صور مشاهداتها بشكل مكثف برسم تجليات الحنين وألق الأمس. بتوصية من جدي محمد هبوب، بعد ولادة أي بقرة يمتلكها ضمن حظيرة بيته المسورة بالسعف وسط نخل “عين خشار” – إحدى مزارع الجهة الجنوبية لفريق الأطرش – أن تكون السحبات الأولية حليبًا ولبنًا سهما لبنات أخته الساكنات في السنابس. يا له من صدر ممتلئ لبقرة تسر الناظرين ترعى وسط العشب الأخضر، فمن حملها إلى حين ولادتها وإرضاع صغيرها، يكون ضرعها مكتنزًا يدر حليبًا متزايدًا قوامه الكثافة والسمن، هو الأفضل والأشهى والأجود، تتباهى جدتي أثناء الحلب “ويش حلاوة حليبة بقرة الوالد دسمة عدل عدل، وإذا خضينها واستوت، شوف اللبنة تصير شيرازة فيها للبا غزوز”.

تتوشح جدتي بردائها ذي الخطوط الحمراء وملفعها المطرز بالزري، ترسل “غضارة لبنة الوالد” هدية خاصة للقريبين من القلب، تتحرك شرقاً ترافقها أمي وخالتي آمنة التي تقول عن بيت بت عمتها “بنروح بيت أبونا الفاني” -من كثرة زياراتهم وألفتهم لأهل البيت وحوش الدار- يتحركن صبحًا حاملات على رؤوسهن خيرات النخل من رطب ولوز وموز وتين ورمان، ومنتوجات البقر، يقطعن الدروب الترابية، المؤنسة بفعل حركة “المشاية”
من نساء ورجال.

وبعد أن تتوارى النخيل خلف ظهورهن تمامًا وتحديدًا عند “المسطح” أو الرملة شرق مقبرة المصلى ببضعة أمتار، تؤشر جدتي “داكيه بانت لينا السنابس” لتهون على بناتها طول المشوار وعبء حمولة الرأس وثقل سلال الأيدي، الباقي على وصولهن كيلو واحد، يقطعن الدرب سوالف وحكايا.

حين يصلن إلى بيت علي بن عيسى فردان، يطرقن الباب وكل واحدة تسمع أنفاس الأخرى، تفتح لهن “ارضيوه” قلبها وتستقبلهن بصوتها الحنون “هله هله، هله بهالقبال” تطرح من على رأس جدتي “صفرية اللبن” وتأخذ “الگفيف” المليء بالثمار، كلمات الحنين المتبادلة تتصاعد من “حوش البيت” قبلات وحضنات لخالتي وأمي “هله بريحة خالي الغالي”، تحيات وترحيب يثلج صدورهن مثل ماء ورد ينساب على الوجوه، تقول أمي مريم “هذه ارضيوه اتعلقت بابوي، وهو يحب بنات أخته واجد كأنهن بناته، وقبل لا يجيبوني، كان أبوي ويا عماتي ساكنين في نخل السعلول” -يقع ضمن المزارع الممتدة على طول طريق تاروت القطيف القديم، غرب سوق الخضار- جدتي وارضيوه تبحران عن أحوال الأهل والخلان، تطويان الوقت ودّا ومحبة، جلسة مسرة وفزعة لتحضير الغداء، فرحة وردحة الصغار مثل رقصة عصافير على أغصان الشجر، تلعب أمي وخالتي برفقة بنات ارضيوه نصره ومدينه، ويتساعدن ذهابًا برفقة الأمهات لجلب الماء من عين السيف، جمال البحر ينعكس القا على وجوههن، وماية لهلال تسحب إلى الداخل متجاوزة حدود العين، تؤشر ارضيوه “هذي سنابيك لعائلة الضامن واللي جنبها آل حبيب وعليوات وفي الجنوب للكواي، وشماليهم لعائلة المبشر” ثمة بحارة عند السفن في حراك مستمر نزولًا وصعودًا، سفن أخرى سافرت منذ بداية الصيف للبحث عن اللؤلؤ، تنشد أمي العودة وهن حاملات على رؤوسهن شربات الماء ” أم الغنايم رقيوها على السيف، فيها اصبيان تجر المياديف، يا نوخذاهم لاطول عليهم، احبال الغوص قصص ايديهم، أم الحصم فيها براد وراحة، وفيب شيل ومرقد البراحة”.

تنبهر والدتي مريم من حفاوة بنت عمتها وتقول: “أحبها واجد واجد، رضيوه المخشوش والمضموم تطلعه، ما تخلي شيئًا عندها إلا تقسمه علينا، ديك اليوم بطلت كبتها، ترست گفه، چده متروسه حلاوة على كل رنگ، أقول من وين جمعته، أيه رضيوه عندها صدقان واجد الكل ايحبها “.

ثمة قلوب تفيض محبة تأسر الجميع. عند الأوليين زيارات الأهل تسري كجري الدماء في العروق، تواصل جدتي طرق بيت بت عمة والدتي أم جاسم العبادي وسلام وتحية لزوجة طاهر الزريقي، أقارب أعزاء وصلة الأرحام توصية ربانية وهمزة الوصل هدايا معنوية وحسية والأرواح جنود مجندة.

نسائم البحر تأخذ جدتي وبناتها من وسط السنابس إلى شماله، قاصدة نزل إحدى قريباتها العزيزات على قلبها، تطرق بابًا خشبيًا لسور طويل مبني من السعف، تهمس جدتي لبناتها، سوف ترون أجمل بستان في السنابس، فتح الباب وفي الاستقبال “العبودة بنت حسين بن رضوان” وبالأحضان مع أمي العودة، “جدتي تقول: هله يا بت عمتي، وهذه ترد هله يا بنت خالي، ايلاوش مكلفة على روحك بالدهنه وصفرية اللبن وحاملتنها من فريق الأطرش إلى هنيه”، “تستاهلين كل خير يا بت عمتي”.

حين مشين من الباب الرئيسي إلى مكان الجلسة وهو العريش، قطعن مسافة طويلة، إنهن في أرض واسعة خضراء، تتباهى بالنخيل والأشجار المثمرات، والسكن فقط دارين للنوم تكاد لا ترى من كثافة الزرع، تحسب جدتي المكان أنه إحدى مزارع شمال تاروت، كأن “معامرة” قطعت من معامير فريق الأطرش وأوتي بها لتسكن بجوار بحر سنابس، مزرعة عامرة بالخضروات والبطيخ والطماطم والكوسة والباذنجان وأشجار التين والرمان واللوز، ثمار تتوزع على سفرة الغداء، والسوالف متعة روح في حضرة الأهل وظلال النخل، هدير الموج يرسل سلامًا للمتولعين بحب الطبيعة، نوارس البحر تقول بأن ابن جابر كان ذكيًا، زرع أرضه الشاسعة طولًا وعرضًا بما لذ وطاب من اللون الأخضر وثمار الخير والبركة.

هجر الديرة وترك ذاك المنزل الضيق وارتحل إلى مكان جعله رحيبًا ليس بمساحته الكبيرة إنما بخضرته المتنوعة الآسرة للقلب. كم خيل للمتفائلين أن مزارع النخيل سوف تزحف في كل الجهات وأنها ستغطي كل أجزاء جزيرة تاروت ولن يبقى للسكن محلًا. إيه على إحساسكم النبيل يا شباب الأمس حين كنتم ترسلون لأصدقائكم في الداخل أو الخارج، أثناء المعايدات بصوركم الشخصية، مرفقة بمنظر زراعي، ومذيّل (مع تحيات المخلص: …) من جزيرة تاروت الخضراء، كلمة صدق بخرتها الأيام في عصر الجفاف، وذهب الإخلاص مع من زرعوا وذيل السلام بـ”المسجات” المعلبة، تحايا لأماكن خاوية على عروشها، (صديقكم: …) من جزيرة تاروت الصحراء.

هل أبدنا الزرع وقتلنا الشامخات انتقامًا لمن أخافونا منها ليلًا “نام لا تجيك أم الخضر والليف”. نمنا وصحينا ووجدنا مزارعنا أعجاز نخل خاوية. صوت ناي حزين يبثه الهندي الأحمر: “تتحجر قلوب الناس عندما يبتعدون عن الطبيعة”.



error: المحتوي محمي